يقول المُحتفى به: لو يرحم الشعر أمثالي لوافاني بما تودّون.. من قولٍ وتبياني لأرسم اللوحة النشوى، مجنحة معبّراً عن أحاسيسي ووجداني لكنّ شيطانه استعصى وفرّ على شهباء عاصفة من مربط الجان بمثل هذه الكلمات كان الحضور يطرب أثناء حفل جائزة الملك فيصل العالميّة، وهو يُفاجأ بقصيدة من نظم أمينها العام، تناسب الموقف، وتطابق أبياتُها الموضوع، وتلتزم قافيتُها بذكر اسم راعي الحفل أو بالإيماء للشخصيّة المكرّمة، وتكون من الجزالة والرقة ما يجعلها حلية من حُلي الحفل وإحدى مشوّقاته. والليلة، أقتبس «نمونةً» من شعره، قد تُبعد عنكم رتابة الحديث في التاريخ واللغة والتراث. فالشخصيّة المحتفى به، وبالرغم من هيبته المشيخيّة، متيّمٌ في حب وطنه وعشيرته، ومسكون بأزمات أمته، شخصيّة لا تغادره الكلمة المرحة ولا القصيدة المازحة، يحبكها فصيحة، وينظمها تفعيلةً، ويقولها نبطية، وإن شاءها فتارة قومية، وأخرى وجدانية، وثالثة حميمية. جمعت بين أسرتينا الجيرة والقربى، والأصولُ والفصول، ورافقته عن قرب في بعض محطات الحياة من الابتدائيّة إلى الشورى، مع اعترافه بالأسبقيّة العُمرية ببضع سنوات لصالحي. غرف من معين شقيقه (الشيخ محمد العثيمين) وتأثّر به، وحافظ على إرثه وتراثه، وصار مجمعَ الأسرة من بعده، والأمينَ على سمعة الزهد والصلاح في سماته. التزم بتوضيح ما نسب للوهابية، وألّف وترجم في تاريخ البلاد السعوديّة، وائتمن على تدوين سيرة الملك المؤسّس، وعلى رصد قصة توحيد هذا الكيان، وفنّد الكثير من مزاعم الرواة والمؤلّفين. غلبت تاريخيّتُه شاعريّتَه، حتى صار المجتمع ينظر إليه مؤرّخاً متناسياً كونه أديباً وشاعراً، مع أن الشعر عنده هو الأساس منذ أن ترجم له صاحب كتاب «شعراء نجد المعاصرون» قبل خمسة وخمسين عاماً. حظي مسقطُ رأسه بالنسبة الكبرى من قصيده الوجداني الجميل، ولا غرابة في الأمر؛ فهو لا يبيع «عنيزة بالزهيد» كما عبّر عن ذلك الشاعر علي رشيد الخيّاط (راعي البندق الشهير) قبل مئة وخمسين عاماً، بل ينظر أبو صالح إليها نظرة المُغرم الوَلِه، يفضّلها لإجازاته، ولا أخالُه يغيب عنها مهما كانت الأسباب، ولا يقارنها بضيْعات لبنان، ولا يبادلها بريف «أدنبرا» التي درس فيها، فهو يتغزل دوماً برباها وببساتينها، ويستمدّ منها كثيراً من الصور الذهنية المختزنة في ذاكرته منذ الصغر عن النشأة والطفولة، والعادات والتقاليد، ويحفظ ما قيل فيها وعنها من أشعار، وإن سألتموه عن فنونها فهو الخبير بضروبها وعَروضها وأوزانها، وهي التي اشتهرت بصنوف وألوان تراثية برعت بها وطوّرتها وأجادت تطبيقاتها، وقد يشارك هو أحياناً في الترنّم بها. وهكذا، خصّ مدينته بكثير من كتاباته وشعره، وخصّص لها كتابه الثامن والعشرين «أنت يا فيحاءُ مُلهمتي»، أصدره مركز ابن صالح الاجتماعي بعنيزة قبل ثلاثة أعوام، كتاباً بثّ فيه مشاعر لا تغيض ولا تنقطع، فهو لا يكاد يغادرها حتى ينازعه الشوق للعودة إليها، مستذكراً مراتع الصبا ومرابع الشباب، ومستعيداً ذكريات مدرسته ومدرّسيه وأقرانه، وحلقات الكتاتيب الرائدة في التعليم الحديث، وأسواق المدينة وحياتها، وأيام العيد فيها، وندوات الثقافة الرائدة، ونزهات النفود والغضا والوادي، ومنتديات السمر، وجلسات الحوطي والناقوز والسامري، عبَّر عن ذلك في العديد من مقالاته وقصائده، وكان من أشهر مطوّلاته عنها، تلك التي كتبها - ولم تكن الأقدم - عند عودته من البعثة عام 1392ه (1972م) قال فيها: حبيبتي، أنت يا فيحاءُ، ملهمتي ما خطّه قلمي شعراً، وما كتبا رجعت من غربتي كي أستريح على رُبى، لدى قلبي المضني، أعزُّ رُبى ما بينهنّ، عرفتُ الأُنس في صغري وفوقهنّ عرفتُ اللهو، واللّعبا هنا، سمعت أهازيجاً، مرتّلة وعشت أيام أشواقٍ، وعهد صبا وبعد: فهذه ليست قراءة في مؤلّفاته وشعره؛ فلقد كفاني مَن هو الأقدرُ على ذلك، لكنّ من يتجوّل في دواوينه العشرة، وفي كتبه الثلاثين، يجد أن القضية العربية قاسمٌ مشترك، استحوذ على همّه الأكبر منذ الصغر حتى اليوم، وأن أسَفَه على واقع الأمة يشكِّل غمَّه وقلقه، وأن التطلّع للإصلاح الاجتماعي الداخلي هو الشاغل الأبلغ لخاطره، في شعر وجداني أصيل وكتابات لا تنقصها الفصاحة والصراحة، عبَّر فيها عن خلجات النفوس، تماماً كما يعبِّر هذا الحفل عن تقدير الحضور لقامته التدوينية والأدبية والوطنيّة. *** - في حفل تكريمه في منتدى بامحسون الثقافي، السبت 1-1-1434ه، 11-5-2013م، بحضور الأمير تركي الفيصل، بفندق ماريوت بالرياض. [email protected]