ظاهرة الترادف من الظواهر الجميلة التي تميزت بها العربية، ولعبت هذه الصفة دوراً مبرزاً في غنى المعجم العربي، ولهجات العربية المعاصرة ورثت تلك الصفة عن اللغة الفصحى، وتميزت بكثرة المترادفات فيها من الخليج إلى المحيط. ومدار حديثنا هاهنا سيكون حول معنى إغلاق الباب، وسنقتصر على اللهجة الحجازية، وستكون المفردات المتناولة من لهجة قبيلة حرب الخولانية الحجازية، وهي لهجة حجازية لا تختلف كثيراً عن لهجات قبائل حجازية أخرى كلهجة قبيلة عتيبة ومطير وجهينة والأشراف والسادة. إذا تتبعنا مرادفات الفعل أغلق في هذه اللهجة فسنجد عدداً لا بأس به من المرادفات، جُلُّها فصيح موافق للفصيح لفظاً ودلالة، وبعضاً طرأ عليه تغير في اللفظ، وآخر حدث له إبدال أو قلب. وسأتناول أربعة عشر مفردة في اللهجة الحجازية تتعلق بمعنى إغلاق الباب، بدلالات مختلفة ومتنوعة. في اللهجة الحجازية نقول سكِّر الباب، وتسمع في الوسيط الحجازي بالصاد (صكِّر) الباب، أي أغلقه، وهذه الدلالة فصيحة الأصل؛ ففي اللسان السَّكْر سد الشق ومنفجر الماء، والسِّكْر: اسم ذلك السداد الذي يجعل سداً للشق ونحوه. ومن شعر الكسرة الحجازية: قال لي أبو زيد هذا ذياب «هيا سوى للغزو يا صاح ولما خرج وانتظر بالباب، سكرت أنا الباب بالمفتاح». وفي الحديث أنه قال للمستحاضة لما شكت إليه كثرة الدم: اسْكُريه، أي سديه بخرقة وشديه بعضابة، تشبيهاً بسكر الماء. والسَّكْر سد الشق ومنفجر الماء، والسِّكْر: اسم ذلك السداد الذي يجعل سداً للشق ونحوه. وكبار السن في الحجاز يقولون: غلِّق الباب، أي أغلقه، وهي من أغلق على وزن فعِّل. وفي اللهجة الحجازية يقال: ردّ الباب، أي أغلق، والرد لغة رجع الشيء. وقولهم قفّل الباب وصك الباب، وهما بمعنى أغلق الباب، وكلاهما فصيح، ففي المعاجم نجد أن الغين واللام والقاف أصل واحد صحيح يدل على نشوب شيء في شيء، كما ذكر صاحب المقاييس، ومن ذلك الغلق، يقال منه: أغلقت الباب فهو مغلق. وفي (الصحاح في اللغة) وأقفل الباب وقفَّل الأبواب، مثل أغلق وغلَّق. وذكر صاحب القاموس المحيط أوصد الباب أطبقه وأغلقه. وفي المقاييس صك الباب أغلقه بعنف وشدة. وفي اللهجة الحجازية يقال ازلج الباب، أي أغلقه بالمزلاج، وهي فصيحة مليحة، ففي القاموس المحيط: وزلج الباب: أغلقه بالمزلاج. ويقال تربس الباب أي أغلق بالترباس، والترباس هو القفل، والفعل تربس ورد في المعجم الوسيط بالمعنى ذاته، ولم أقف عليه بهذا المعنى في المعاجم المتقدمة. وقد ذكر صاحب تاج العروس تربس بمعنى طلب طلباً حثيثاً. والترباس يسمع كذلك بالدال درباس والفعل دربس. والعامة في الحجاز تقول لمن استغلقت عليه مسألة أو استشكل عليه الفهم (تربس عقله). ومثل تربس يستخدمون زرفل، فيقولون (زرفل الباب) أي أغلقه بالزرفال، وذكر ابن منظور في اللسان الزِّرفين والزَّرفين: حلقة الباب، لغتان. قال أبو منصور: والصواب زِرْفين، بالكسر على بناء فِعليل, وليس في كلامهم فُعليل. الجوهري: الزُّرفين والزِّرفين فارسي معرب، وإن كان الفرس لا يستخدمونها حالياً بل يستخدمون الكلمة العربية قفل! وعامة الحجاز منهم من يقلب الياء ألفاً والألف ياءً كبعض قبائل حرب كبني عمرو فيقولون في فيحان فاحان، وفي سبيع سباع! وزرفال أصلها زرفين قلبت النون لاماً والياء ألفاً. وفي اللسان كذلك أنه ورد في الحديث: (كانت درع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات زرافين إذا عُلقت بزرافينها سترت، وإذا أرسلت مست الأرض). وأما الفعل زرفن فقد ورد في القاموس المحيط بمعنى جعله كالزرفين، ومثاله زرفن صدغيه. وفي اللهجة الحجازية المعاصرة زرفن الباب أي أغلقه بالزرفال (الزرفين). وأما إغلاق الباب بعنف وبقوة وشدة فنجد لهذا المعنى مرادفات عدة في اللهجة الحجازية المعاصرة، فمن ذلك قولهم صفق الباب، وهي فصيحة كذلك؛ ففي اللسان صفق الباب يصفقه صفقاً وأصفقه، كلاهما: أغلقه. وصفق الباب تدل على إغلاق عنيف لغضب أو بسبب الريح، والفعل صفق قد يرد لازماً وقد يتعدى فيقال: (صفق الباب) أي انغلق بشدة بسبب الريح مثلاً. ويقال: (صفق فلان الباب!) أي أغلقه بعنف محدثاً صوتاً. ومثل صفق رضخ الباب، وهي فصيحة أيضاً؛ ففي القاموس المحيط رضخ به الأرض: جلده بها. ورضخ الباب في اللهجة الحجازية كأنها ضرب الباب بعضه ببعض. وأما رتج فهي من الفعل الفصيح أرتج الباب إذا أغلقه إغلاقاً وثيقاً كما في اللسان، والرتج والرتاج لغة الباب العظيم، والحجازيون يقولون رتج الباب، وكذلك بالدال (ردج) الباب! أي أغلقه بعنف ليحكم إغلاقه، وقد يكون لغضب أو نكاية. ومثل صفق نسمع طبع، فيقال: (لا تطبع الباب!) أي لا تغلقه بعنف. وهي عندي فصيحة؛ ففي المقاييس: الطاء والباء والعين أصل صحيح، وهو مثل على نهاية ينتهي إليها الشيء حتى يختم عندها، وفي القاموس المحيط: طبع قفاه: مكن اليد منها ضرباً، وعليه أرى أن طبع الباب دلالة من فوائت الدلالات. وكذلك رقع الباب أغلقه بعنف محدثاً صوتاً، وعندي أنها إبدال من قرع الباب، وفي المقاييس القاف والراء والعين معظم الباب ضرب الشيء، يقال قرعت الشيء أقرعه ضربته. فطبع في اللهجة الحجازية إغلاق للباب يحدث صوتاً كالقرع الشديد. وأما مواربة الباب أي تركه مفتوحاً جزئياً فلها في اللهجة الحجازية مرادفات عدة، فيقول الحجازيون رد الباب أي دعه مجافاً - وهي قد تعني أغلقه وذلك بحسب السياق - ويقولون كذلك جافِ الباب وكسرة الفاء خفية لا تكاد تسمع. وصفة الباب المفتوح جزئياً عندهم مجافى، وهي فصيحة الأصل؛ ففي الحديث صحيح الإسناد عن عبدالرحمن بن عوف أنه حرس ليلة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذا باب (مجاف) على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة فقال عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبدالرحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ فقال عبدالرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه، نهانا الله عز وجل فقال: {وَلا تَجَسَّسُوا}، فقد تجسسنا. فانصرف عمر عنهم وتركهم. وورد في الحيوان للجاحظ استخدام للفعل جافى بالمعنى ذاته في مقطع طريف عن الذباب نثبته كما هو: وذكر الجاحظ في معرض حديثه عن الذباب: (قال وفي الذباب خصلتان من الخصال المحمودة، أما إحداهما: فقرب الحيلة لصرف أذاها ودفع مكروهها؛ فمن أراد إخراجها من البيت فليس بينه وبين أن يكون البيت على المقدار الأول من الضياء والكنّ بعد إخراجها مع السلامة من التأذي بالذباب إلا أن يغلق الباب، فإنهن يتبادرن إلى الخروج، ويتسابقن في طلب الضوء والهرب من الظلمة، فإذا أرخى الستر وفتح الباب عاد الضوء وسلم أهله من مكروه الذباب، فإن كان في الباب شق، وإلا جافى المغلق أحد البابين عن صاحبه ولم يطبقه عليه إطباقاً، وربما خرجن من الفتح الذي يكون بين أسفل الباب والعتبة، والحيلة في إخراجها والسلامة من أذاها يسيرة). ونرى الجاحظ يبين معنى جافى ويوضحه بقوله: ولم يطبقه عليه إطباقاً. ومثل مجافى يقولون باب مسايف، و(سايف الباب) أي واربه، ومثلها كذلك طرِّف الباب، والباب المجاف يسمى عندهم كذلك مطرَّف، وهي عندي دلالة فصيحة متطورة من دلالة الرد؛ ففي القاموس المحيط طرّف على الإبل: رد على أطرافها، وطرّف الخيل: رد أوائلها. وبنظري أن جافى أفصح وأولى بالاستخدام من وارب. ومما سبق نرى أن لهجاتنا المعاصرة تحوي كنزاً لم تمسه بعد أقلام الباحثين الجادين، وهو كنز حري بالمؤسسات الأكاديمية والمتخصصة في اللغة منها، والمجامع اللغوية عامة، أن تنهل منه، وأن تستدرك من هذه اللهجات ما فات أهل المعاجم، لفظاً ودلالة ومعنى؛ ففي هذا الكنز اللغوي رافد نراه غنياً يثري الصناعة المعجمية العربية، وسيسهم في ترجمة المصطلح، والتقريب بين الفصحى ولهجاتها. المراجع: معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس، اتحاد الكتاب العربي، ط الأولى. تاج العروس من جواهر القاموس، لمحمد بن محمد بن عبدالرازق المرتضى الزبيدي، دار الهداية. لسان العرب لمحمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، دار صادر - بيروت، الطبعة الأولى. المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى - أحمد الزيات - حامد عبدالقادر - محمد النجار، مجمع اللغة العربية. الصحاح في اللغة للجوهري، دار الحضارة العربية، بيروت. الحيوان للجاحظ، بتحقيق وشرح عبدالسلام هارون، الطبعة الثانية، ج 3، ص: 319 - 320. - هيوستن تكساس