تتوارى تلك الأوصاف الغالبة على النسق المعرفي والنفسي الخاص بالشخصية الأكاديمية في الجامعات العربية شيئاً فشيئاً هنا في الصرح الأكاديمي السعودي... لقد طغت كثير من العناصر السالبة على موجهات ذلك النسق وآلياته ونواتجه الفكرية والشعورية، وبسبب منه أو تحت ضغوط هذا الإحساس كتبت مقالاً طويلاً بعنوان «قراءة في النسق المعرفي للنخبة، أستاذ الجامعة في الوطن العربي أنموذجاً» نشر قبل سنة من الآن أو يزيد في صحيفة المدينة السعودية. وخلاصته أن مواقف الأستاذ الجامعي العربي أو ما يفرزه من ثقافة وفكر وسلوك تكشف لنا عن تصورات وقناعات وحقائق مؤلمة توحي بسعة القلق والتوتر والتوجس في عالم الأستاذ الجامعي الخاص، وامتداد فاعلية هذه الإفرازات السالبة إلى سياقات الواقع المجتمعي بشكل عام، فإذا نحن نقف أمام حالات مشوهة تتنافى مع جوهر هذه الشريحة، باعتبارها الصفوة أو النخبة الأكثر فاعلية وقدرة على تشكيلِ النسقِ المعرفي والروحي للمجتمع بشكل إيجابي. هكذا كانت الصورة أو النسق المضمر تجاه الأكاديمي العربي، حالات من العجب والانفعال واللامبالاة والازدراء بالآخر... حالات من اليأس والجمود والتنافر والخوض في مسائل ثانوية أو هامشية، بالإضافة إلى تصاعد حدة الصراع البيني، وهو ما أدى إلى صمت هذا العالم وغياب جدواه وعجزه شبه المطلق عن تأسيس مؤسسات إبداعية وعلمية تُسهمُ في النهوض بالأمة علمياً وفكرياً، وكذلك غياب دورهم عن تسيير ركب التحول العربي وتقاعسهم عن المشاركة في أحداثه المصيرية السياسية والثقافية والاجتماعية، زد على ذلك عجزهم عن الاندماج مع فئات المجتمع وعدم التأثير فيها. تلك هي الصورة السائدة والغالبة على النفس والذهن بشكل عام، ولكن ما يهمني هو السلوك الذاتي وطبيعة التخاطب والتفاعل مع الآخر، وهو ما لفت انتباهي منذ أربع سنوات في الجامعات السعودية، إذ لمست بعض الملامح المغايرة لطبيعة ذلك النسق، فثمة سمو أخلاقي حقيقي تتمتع به نسبة كبيرة من الأكاديميين السعوديين تصل حد الظاهرة، وقد حاولت مع كثير من الزملاء الدارسين في الجامعات السعودية تفسير هذه الظاهرة التي تخالف النسق العام للأستاذ الجامعي في دول الوطن العربي كما هو ظاهر من المناقشات والأفكار والحوارات التي نراها بصورة مباشرة أو غير مباشرة... ثمة تفسيرات كثيرة لهذه الظاهرة، لعل أقربها إلى الصواب هو انبعاث هذه الخاصية من المرجعية العلمية أو البيئة التي تعلم فيها الأستاذ الجامعي السعودي وتفاعل معها بحيوية، فكما هو معلوم أن غالبية أعضاء هيئة التدريس السعوديين نالوا مؤهلاتهم العلمية من دول العالم المتحضر (أمريكا ودول الغرب بشكل عام)... وبسبب التعايش الطويل مع تلك البيئة المتواضعة في سلوكها وخطابها الذاتي تشرب هؤلاء هذا النمط الحياتي... قد توجد تفسيرات أخرى لهذه الظاهرة كالاستقرار النفسي والمادي وغير ذلك. وبناء عليه، فإن من الإنصاف ضرورة تسجيل هذه القيمة والسمة الحضارية التي يتمتع بها الأستاذ الجامعي السعودي، ليس من باب الإعجاب فحسب ولكن من باب إبداء الحق كما رأيته... وقد آثرت ألا أقوله إلا في خاتمة بقائي بهذا البلد الرائع بشخوصه وأمكنته وكافة معطياته ومكوناته.