يعتبر فيشتغن رائد المنظور التصوري التحليلي في اللغة "أن الخطأ الذي يحدث في الإدراك النفسي والعقلي إنما هو خطأٌ لغوي في الأصل"! لقد أدرك سيمجوند فرويد قبلهم ربما - رائد مدرسة التحليل النفسي - أهمية هذا البعد، ودعا إلى ما يسمى بالتداعي الحر بعد أن يضع المتحدث في منطقة الانفعال رافضاً الطريقة الدوائية بعد آماله التي خابت، وعبد الوهاب المسيري أيضاً يذكر في احد كتبه بأنه لولا المجاز لما عرف الإنسان الأشياء المعنوية حيث أنها أداة لربط ما هو محدود بما هو غير محدود وتحوي بدواخلها حقائق علمية مهمة متعلقة بالنفس البشرية بعكس اللغة الحرفية والتي تقتل معاني الأشياء الجوهرية كالكتابة الابداعية - الرواية - الشعر - القصة القصيرة -. ومن هذه المنطلقات كان ل "ثقافة اليوم" هذا الحوار مع أستاذ الطب النفسي الأكاديمي بجامعة الملك سعود عبدالرزاق الحمد. * ابتداء هل يمكن أن يستجلب المعالج النفسي من الاستعارات والتشبيهات والتي لا نستطيع أن نحيا إلا من خلالها كما يقول جورج كلايف كل الذكريات المؤلمة والرغبات والنزعات المدفونة في ذهنية الكاتب؟ وأيضاً من طريقٍ مختلف هل الكاتب شاعراً أو قاصاً أو روائياً يكتب ليس لأنه يريد أن يقتحم الكتابة وفضاءاتها وإنما من أجل أن يعيد ترتيب هويته النفسية من جديد؟ - كل الباحثين في المجال التحليلي للنفس يتفقون على أن المخزون المعرفي واللغوي للفرد يشكله المحيط الثقافي والأدبي والأخلاقي الذي يعيشه في حياته الأولى، مما يكون اللاوعي والعقل الباطن لديه فبالتالي تتجمع الخبرات والتجارب في الطفولة من أفراح ومعاناة وتفاعلات في سلاسل من الصناديق أو الحاويات والتي يرمزها العقل الواعي من خلال مستقبلات محددة يمكن لها أن تثور وتنفجر في لحظة معينة حينما يصادف الفرد مثيراً محدداً له نفس الرمز الذي يفتتح تلك المستقبلات سواء كانت الحاويات تلك تجارب مفرحة أو محزنة أو قاهرة أو غاضبة تنطلق الاستجابة بما يناسبها مثيرةً كل أنواع الشعور والمشاعر التي اختزلتها فيحين مباشرتها في الحياة الطفولية وعليه فإن هذه العملية المبسطة والمعقدة تتم بمساعدة عوامل متعددة داخلية وخارجية ومعقدة التفاعل ومنها اللغة والقدرة التعبيرية بها. إن الكلمة والجملة هي بحروفها وتشكيلها وسهولة جريانها على اللسان والشفتين إنما هي ترميز مصطلح أنتجته عملية التفاعل والتفاهم والبناء التربوي والاجتماعي بل والأحداث المفردة التي تعرض لها الطفل وسمع خلالها الكلمة المحددة في حادثة معينة. * سيمجوند فرويد كان يشيد بأعمال دستوفسكي ومقدرته اللغوية في توضيح النزعات البشرية من خلال شخوصه الروائية، كما أن فرويد استطاع أن يخرج من رواية "جوستين وجوليت" للمؤلف دي ساد الأديب بما يُعرف في الطب النفسي بالسادية، أيضاً المازوخية اكتشفها فرويد من رواية "فينوس ذات الحلل الفروية" من خلال تحليل شخصية البطل والذي يستمتع بالألم الذي يقع عليه، كذلك أعمال تولستوي تدرس في كليات علم النفس لفصول دراسية طويلة، فإلى أي مدى نحنُ مهملين هذه الطريقة والتي من الممكن أن تمدنا بالكثير من الفهم والإدراك لشخصية مجتمعنا ولفهم السلوك النفسي العربي عموماً؟ - لك أن تتصور التباين في التعبيرات اللغوية بين الأفراد سواء في الإبداع الأدبي أو في العلاج النفسي ولكن الأشياء الأخرى التي تصنع اللاوعي والعقل الباطن هي الإيماءات والتعبير المشاعري في ملامح الوجه ولونه فكل ذلك له أيضاً انعكاساته التي قد يعجز الفرد من خلال الكلمة اللغوية، ولهذا كان العلاج النفسي محيطاً بهذا الجانب والذي يستدعي التفاعل المباشر بين الطبيب والمريض وهذا أيضاً جانب يعجز كثيرون عن تضمينه في اللغة المنقولة والمبدعون هم من يمكنهم تصريف اللغة لتكون حية نابضة بكل الصورة النفسية وتعابيرها اللفظية وغير اللفظية، لذا كان من ضرورات نجاح العلاج النفسي قدرة الفرد على التعبير الواضح عن ذاته وإمكانيته ولو بمساعدة المعالج أن يستجلى المتداخلات من أفكاره ومشاعره ويعيد مسلسل المعاني المتراكبة في مكنونات نفسه. كما أننا في العلاج النفسي التحليلي نستخدم كل ما يوصلنا إلى دواخل النفس في العقل الباطن سواء من خلال اللغة الظاهرة أو الاستعارات المتخيلة أو من خلال الزلات اللسانية المبرمجة في اللاوعي أو من خلال التداعي الحرفي إطلاق المدفون في عملية تلقائية ذاتية أو من خلال الأحلام وتحليلها والذي بمجموعه ينعكس في حياة الفرد وعلاقاته ودوافعه ومعارفه. * كيف يمكن قراءة شخصية المجتمع السعودي من خلال أكثر الأعمال الإبداعية انتشاراً والأدوات البلاغية استعمالاً؟ خصوصاً وأن عنصر الرواية المشبعة بهذين الشيئين كانا هما الأكثر اقتناءً لزائري معرض الكتاب الماضي كما تذكر أغلب التقارير الصحفية؟ - إن المتأمل في التحولات العميقة في المجتمع السعودي يمكنه أن يرى جلياً الشخصية الطفولية السائدة في التفاعل مع الإبداع كله سواء في الأدب أو في المعلم واختراعاته أو في الأداء والإنتاج ويمكنك أن تتبين الموجات الدعائية الصانعة للذوق والتقييم والتفاعل من جهة وللتناقض والصراع والإرهاق المعرفي من جهة أخرى؛ لذا فإنني أرى أن التبلور في شخصية المجتمع تنبع من إحصائيات معينة لا يعكس دواخل النفس وأبعادها لأن التعقيد المتشابك في النفس جعلنا دائماً نتنبه إلى عدم اختزال النفس البشرية بمنظور واحد وأن نرى دائماً العمق التحليلي خلال شمولية مكوناتها المتفاعلة والمعقدة حتى يمكننا دائماً العودة إلى الأصل في فهمها وإدراك مداخلها وشعبها الداخلية والظاهرة فالاختزال لهذه النفس هو قتل لها واستعلاء على إبداع صنعها وحسن خلقها، نحن بحاجة إلى تحليل جريء وعميق لمجتمعاتنا العربية في تحولاتها وواقعها حتى نستطيع أن نساهم في البناء الفكري والنفسي لهذا النفس العربية والمجتمع العربي، وهذا لا يتحقق بتحليل شخصيات ورموز فكرية ساذجة أو المغلقة أو المبرمجة وإنما يتحقق برموز فكرية متجردة وناضجة التجربة وتحمل الإخلاص والولاء لهذه المجتمعات.