ماذا فعلت أيها ذا الزمن الشارد المتفلت من بين الأصابع كقبض الريح في صاحب هذه الصورة البريئة الحالمة بعد أربعين عاما؟! أحقا هذا أنا؟! لا أصدق أنني أنا صاحب هذه الصورة! هذا إنسان آخر، من هو ذلك الشاب الوديع المشرق المتفائل المتدفق حيوية وآمالا كبارا عراضا لا تسعها الدنيا على سعتها؟! لمن هذه الملامح؟! أهي ملامح وجهك التي تبدو وكأنها قطعة واحدة بلا حدود ولا خطوط ولا طلوع ولا نزول؛ بلا جبين مقطب بأربعة خطوط طولية حفرت لها في جبهتك لها طرقا سالكة، وبلا وجنات تغضنت وتنقطت وأخفت طول أنفك فبدا أصغر وأضخم وزحفت وجنتاك على عينيك فأغمضتهما فضاقت عن اتساعها القديم المتقد بالبريق ونبض الحياة والآمال الباسمة! هذا ليس وجهي، ولست أنا هو! إنه وجه ليس لي! كان لإنسان آخر لا يحمل من هموم هذه الحياة غير أن يرسم دوائر فرح، وأن يقطف أزهار محبة، وأن يعانق بأحلامه عنان السماء كل ليلة، كان يسرح ويمرح ويرى الدنيا زمنا غير محدود بليل أو نهار؛ بل فضاء مفتوحا وكأنه سيعمر فيه أبدا، وكونا سرمديا بلا نهاية سيلاحق آماده البعيدة بقدرات تتدافع بين جنبيه فيأتي بالمستحيل ويحقق ما عجز عنه الأولون والآخرون! وجه كان له! وجه مشرق عينان تتوقدان شعر مسبسب خطا شارب يوحيان بشيء غير قليل من التمرد والفورة وعنف انطلاقة روح الشباب! أين ذلك كله أيها الذي كان ذاك الفتى المورق بالحياة والآمال العراض؟! تلك لم تكن صورته، وذاك ليس وجهه! لقد تكسرت النصال على النصال أيها الفتى الذي كان؛ وتبعثرت أحلامك الكبار، كانت كزبد البحر حين يهدر هائجا مائجا، فقد كنت تقفز وتعدو وتهدر ولا تبالي، كنت كالعواصف حينا وكالنسيم حينا آخر، طقسك مغامر ومقاتل عنيد، وفصولك أنت تملكها وتتصرف فيها؛ فإن أردت أن تكون ريحا عاتية تدمر بثورتها ما بين يديك من تقاليد فعلت فكسرت وخضبت سيفك بدماء ضحاياك ولا تبالي، وإن أردت أن تكون نسيما رائقا رقراقا عذبا كنت هو؛ فمررت على هذه الدنيا مرور العاشقين الحالمين؛ فلم تقع عينك إلا على ما يبهج، ولم تقبض يداك من حقول حياتك إلا ما يفوح شذى وأريجا وعبقا! لقد تكسرت النصال على النصال أيها الفتى الذي كان! فما أنت هو ولا وجهك وجهه! هذه الصورة ليست لي! إنها له هو، لذلك الفتى الشاب الحالم العالم بأسرار غيبه كما كان يزعم لنفسه، كان يزعم أنه يملك غده كما ملك يومه وأمسه، فما كان يظن أبدا أن الدنيا ستغيره، ستمحو ملامحه، سترسم تجاعيدها على صفحة وجهه التي كانت أنقى من صفحة قمر وأبهى من ألق وردة وأنعم من لمسة حرير، ما كان يتخيل أبدا أنه سيذوق عذاب هجر أو انهيار حلم، أو قسوة زمن، أو مرارة فقد، أو تقلب صديق، أو انقلاب حظوظ، أو تكدر خاطر، أو تغير مفهوماته هو وتحولها من حال ثائرة هائجة إلى حال ساكنة مستسلمة مهزومة مكسورة حائرة تائهة لا تجد لها مخرجا ولا تعلم أين هو الطريق! كان صاحب تلك الصورة البهية يزعم لنفسه أنه يعلم تفسير أسرار الكون، ويحدث نفسه بأنه لن يقف في طريقه حتى أعتى الشياطين؛ فلديه من القوة والعزيمة وضخامة الآمال وقوة الانطلاق ورباطة الجأش ما سيهزم به الدنيا بأسرها! انهزم الفتى الذي كان وتحطمت النصال على النصال! صورتك أيها الذي كان مشرقا بهيا مختالا مزهوا ليست لك؛ إنها له هو، لصاحب ذلك الوجه الذي كان يوما لك! وأنت لست هو! الله أيها الزمن المر المحير الغريب كم تمنح القليل القليل وتخطف الكثير الكثير! فماذا بقي مما كان؟! لم يبق إلا ذاكرة موشومة، وملامح غائبة، وحدود رسم خيال لصورة تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد! كم بيني وبين تلك الصورة المدعاة المزعومة من آماد ودهور وبيادر قحط وعذابات روح؟! أربعون عاما هي الخصم والحكم! أربعون تحفر، تدمر، تشوه، تحذف تضيف، تبدل وتزور! أربعون متدافعة متراكضة لاهثة تحطم في كل دقيقة ركنا من أركان أهرام شيدها الزهو وبنتها الخيلاء ولونها الغرور! أربعون مرت سارقة ذلك الزهو وتلك الكبرياء الشابة الواثقة! أربعون أورثت حطاما وبقايا وفتاتا لا تشبه أبدا ملامح تلك التي كانت صورة لي! [email protected] mALowein@