أكتب هذا المقال وسماء الرياض تزمجر بالصواعق والرعود، وفضاؤها الواسع العميق الممتد في عالم الغيب والمجهول يشتعل بالبروق، مطر ينهمر؛ ينهمر على هذه المدينة الضاجة الهادئة العنيدة المطواعة، مطر ليس معها على وفاق ؛ حالات رضاه ساعات وهجره أشهر وسنوات طوال. لا يهم! مطر ينهمر في حالة رضا أو خصام؛ الأهم أن يظل منهمرا، أن يظل مدرارا سحا عاما غدقا، يروي ويرضي، يغسل الأوزار قبل الأوضار! انهمري أيتها القطرات الهاربة الغاربة عن هذه المدينة أبدا، تكاثفي، تساقطي من عليائك البهي النقي في السماوت العلا ثم اتينا كلك على آكامنا وهضابنا وأوديتنا وصحارينا ونفوسنا! انهمري أيتها القطرات المغتربة التي باعدت بيننا وبينها السنين والأنواء والفصول! لا تكوني آحادا، كوني مدرارا، مطرا له زمجرة وصهيل، له فرح تحتفل بنزوله السماء قبل الأرض؛ فتشتعل ببروقها الفرحة المبتهجة! أيها المطر الذي يشق حجب الظلام والغيب والمجهول! انهمر، تدفق، تساقط بعنف؛ انفلت من غمامك الكثيف العميق، فما أحوجنا إليك، ما أشد لهفتنا إلى طلك ونداك! انهمر أيها المطر المسافر الغارب الهارب.. وتكاثفي أيتها القطرات النقية العذبة، اروي شفاها متعطشة ظمأى؛ اغسلي قلوبا ما أشد حاجتها إلى طهرك ونقائك! لتغتسل بك المدينة وأهلها من آثام هجرك وخطايا بُعدك! في غيابك الطويل تكاثف غبار النفوس، وتعاظم قحط القلوب، وبك تكون ندية رخية لينة هينة معشبة مورقة مثمرة معطية سخية! طهريها أيتها القطرات النقية من أوزار طال بها الأمد؛ وامتد بها الهجير! يا أيها المطر الساح العذب؛ ها أنت تسافر بعيدا بعيدا إلى هناك في تلك الديار، فلا تبرحها، ولا تغيب عنها، فتخضر بك تلك القلوب وتزهو بعطائك تلك الجيوب، وتفيض بك تلك الأنهار وتمتلئ بك تلك البحيرات؛ تعيد صياغة الإنسان من داخله؛ فكن لنا كما أنت لهم، أعد تكويننا، أعد صياغتنا، ارسمنا بريشتك البارعة الفنانة؛ لنغدو أجمل وأكمل وأبهى! كن لنا أيها المطر صديقا رفيقا رقيقا واصلا غير هاجر! كن لنا المشفق الحنون! كون من جفافنا المزمن ندى وطلا وخميلة زاهية مثمرة! وخذ معك في طريقك إلى غايتك البعيدة في أقصى الأودية النائية من نفوسنا بلادتها ووساوسها وظنونها! خذ معك الشقي ودع لنا النقي! خذ معك العصي ودع لنا الرضي! خذ معك الشحيح ودع لنا السخي! خذ معك الخامل ودع لنا الباذل! كوننا أيها المطر البهي الساح من علياء الطهر والنقاء؛ فما أحوجنا إلى أن نغتسل بك من وعثاء أزمنة مرة تفرق ولا تجمع، وتبعد ولا تقرب، وتنفر ولا تحبب؛ أزمنة غيَرنا فيها قحط النفوس قبل الفلوس، وجفاف القلوب قبل الجيوب، فلتكن لنا البلسمَ الشافيَ بعد أن انتظرناك، انتظرنا مجيئك، إطلالتك العذبة من سنين! لا تكن بنا رفيقا أيها المطر المهاجر الذي حانت أوبته البعيدة! كن عاصفة هادرة! كن زمجرة واشتعالا! أوقد في هذه المدينة روح الحياة! أيقظها من غفلتها الطويلة! رج فيها دماء كادت تتجمد في شرايينها الضيقة! رجها رجا! ادفق عليها حمما من رضا وبرَد وسلام! أنزل عليها من سماواتك نورا يضيء لها طريق الحياة، ونارا تدافع به عنها شياطين الإنس والجن! لا تكن إلا عواصف مغدقة تنسي هذه الصحراء جفافها المزمن إلى الأبد! [email protected] mALowein@