قالت له موظفة التلفريك النمساوية الجميلة: عليك أيها الفتى الصحراوي أن ترتدي من الملابس الثقيلة ما يقيك لسع الهواء المثلج في القمة، ولا بد لك أن تحمي رأسك بمظلة تمنع عنك المطر الذي يهطل كما تراه الآن بهدوء ولكنه سيزداد انهماراً حين تصعد إلى أعلى قمة الجبل الذي يرتفع أكثر من ثلاثة آلاف متر! ضحك الفتى الصحراوي من هذه النمساوية الناعمة حتى كاد أن يسقط على قفاه! فعجبت منه، وقالت: مالك تكاد يغمى عليك؟ هل قلت ما يضحك؟! قال لها وهو يأبى أن يفك أزرار مظلته التي لم ترها، ويأبى أن يرتدي معطفه الثقيل الذي لم تهتد إليه عيناها الزرقاوان الفاتنتان: إنكِ أنتِ العجب والدهشة والفاكهة والحبور والنور الذي يسري في الدم فيصل إلى القلب ليضخ الحياة والبهجة والسعادة والانشراح والضحك فلا أملك مقدرة على منع تأجج حياة في داخلي تكاد تنفلت من إسارها الذي ضاقت به حين تدفق محيّاك البهي بكل هذا البهاء والجمال أيتها النمساوية اللدنة التي لم تمسسك الصحراء بلهيبها فتبهت وتتقشر وتغبر أو تصفر أو تخشوشن وتغدو كجلد بعير تائه أغبر أجرب طارده الإقتار والجفاف! ثم إنك توصينني وأنا الهارب من الحر والقر والظمأ واللهيب بأن أندعس في المعطف فلا أحس بلسع برودة، وأحتمي بمظلة فلا أشعر بانهمار قطرات مطر؟! ما هذه الوصايا اللئيمة غير المخلصة التي تمحضينيني إياها وتهدينها إلي أيتها النمساوية الجميلة البلهاء؟! لم أتيتُ إلى حيث أنتِ؟ ولم تجشمت الصعاب وتكلفت غلواء السفر ومشقة الفيزة واستدنت من الفيزا إلا لكي أسعد وأطرب بعصيانك في ما أوصيتني به! لم آت لكي أحمي جسداً ضاق بالجدب والإجداب، لم آت لكي أدس نفسي في معاطف الصوف فلا أفارق الحرارة نفسها التي هربت منها! أتيت إلى هذه الأفياء الندية الماطرة، وإلى تلك القمة المثلجة البيضاء كقلب فتاة بكر لم تعشق بعد لكي تضرب أمطار النمسا كلها جسداً لم يستحم سنين طوالاً بماء مطر! ولكي تتخلّل نسمات برودة درجة الصفر وما تحتها مسمات جلد لم يتذوّق من قبل سوى برد يسدح ضحاياه مرضى أسابيع! أتيت أنا الصحراوي الجاف الحاف إلى مطركم هذا الرائع الذي لا ينقطع بين قوة وضعف وكأنه يراوح كي لا يحبسكم عن قضاء شؤونكم، وثلجكم هذا الذي يلف القمم المحيطة بزيلامسي فكأنها تتعمم به متزينة مزدهية! صعد التلفريك إلى الجبل المتطاول المتلوّن بكل زهر من كل لون، بين منبسط وحاد الارتفاع من الصخور أو الشقوق المحشورة بشجر عميق الاخضرار، وبين شلال صغير يبدو كموج حليب شديد البياض يعذب صوته والمصعد فوقه يكاد يبتل به، إلى أن استقر المقام بعاشق الثلج المتيم بالبياض على القمة النقية العذراء التي كأنها لم تطأها قدم إنسان من قبل! استقبل الفتى عواصف ريح ثلجية ماطرة بصدر رحب دون أن يهرب إلى ملجأ أو يتمنع عنها بمعطف، وقال يخاطب نفسه: ما أتيت ِ إلا لهذه العواصف الباردة والرياح النقية الماطرة، فعبي منها ما استطعت كي تطفئي ظمأ سنين طويلة من العطش، أدخلي هذا الهواء العليل المتساكب الندي الماطر إلى أعماقك لتخزنه رئتاك الخاويتان إلا من بقايا حر وغبار! احتفظي منه بما يمنحك طاقة تقاومين بها جفافك الصحراوي المزمن! [email protected]