هناك فرق واضح وجلي بين الثورة والفوضى، وقد تجلى هذا الفرق بصورة كبيرة فيما يحدث في تونس ومصر، وحتى في ليبيا، وإلى حد ما في اليمن. فوضى عارمة طغت على المشهد السياسي والاقتصادي وحتى السلوكي في بلدان ما يسمى بالربيع العربي، التي أوصلت أحزاباً وأفراد إلى سدة الحكم لم يكونوا مؤهلين، وغرقوا في التوجهات الأيديولوجية بدلاً من إتقان العمل السياسي وفن إدارة الحكم. تونس شهدت ثورة الياسمين، الثورة السلمية التي كانت أقل ثورات الربيع العربي تكلفة من حيث الدماء؛ فلم يسقط ضحايا بقدر ما سقط في مصر واليمن وليبيا وسوريا؛ ومرد ذلك إلى أن الشعب التونسي يتميز بالانضباط الحضاري، ويُعد الأكثر ثقافة في محيطه الإقليمي وفضاء جنوب البحر الأبيض المتوسط. وتولد انطباع لدى المتابعين لتطور الأحداث في تونس أن ثورة الياسمين ستجتاز مخاطر التحول بأقل الخسائر، خاصة بعد توافق التيارات السياسية الثلاثة التي أفرزتها الانتخابات، والتي أوصلت إلى تشكيل «الترويكا» الثلاثية، التي جمعت بين الإسلاميين «حركة النهضة» والقوميين «الاتحاد من أجل الجمهورية» واليساريين «التكتل من أجل العمل والحريات»، إلا أن هذا الانطباع بدأ بالتلاشي، خاصة بعد ظهور جماعة التشدد من المحسوبين على التيار الإسلامي، الذين وجدوا تراخياً من عناصر الأمن وتغاضياً من حزب الأغلبية «حركة النهضة» التي لا تريد أن تتخذ مواقف صارمة ضد جماعة تحسب على التيار الإسلامي الذي يقدَّم حزب النهضة على أنه قائده السياسي. ورغم أن الحركات المتشددة التي تزعم انتماءها إلى السلفيين قد دخلت في معارك فكرية ولفظية حتى مع وزراء حزب النهضة؛ حيث وجهوا كثيراً من الانتقادات إلى وزير الداخلية عضو حزب النهضة، إلا أن حركات التشدد فرضت وجودها على الواقع التونسي؛ فأصبح لها حضور على المشهد السياسي وحتى الميداني، وأخذ دعاتها يظهرون على منابر المساجد والفضائيات، يكفرون المثقفين وزعماء الأحزاب السياسية، ويمهدون لمناخ من الكراهية في مجتمع كان لا يقبل بمثل هذه الممارسات التي أخذت تظهر في الأماكن العامة؛ حيث جرى اقتحام إحدى محطات التلفزة وإحدى الجامعات، وتم الاعتداء على فنانين ومثقفين، وأخيراً تم اغتيال زعيم حزب يساري، هو المحامي شكري بلعيد، في أول عملية اغتيال سياسي بعد أكثر من 50 عاماً؛ إذ كانت أول عملية اغتيال سياسي قد جرت أثناء حكم الاستعمار الفرنسي لأحد قادة الحركة العمالية، كما جرى اغتيال معارض سياسي تونسي في منتصف القرن الماضي، ولكن في ألمانيا. اغتيال المحامي شكري بلعيد يثير قلقاً ومخاوف من أن الجماعات الطفيلية المتشددة قد تفرض رأيها بقوة السلاح، وتنفذ مخططاتها المعتمدة على ارتكاب العنف الجسدي ضد الآخر، وفرض آرائهم بالقوة حتى وإن نفذوا سلسلة من الاغتيالات. [email protected]