يحتج البطن إذا فرغ، وإذا امتلأ سرعان ما يصبح فارغاً، لأنه يوزع ما يهضمه على كل أعضاء الجسم. لدى البطن استجابة فورية ضد الوقود الرديء، إما بالرفض أو بالقيء والإسهال، وعلى الرغم من أن أغلب البطون تتأقلم إلى حد ما مع الفروقات الطبقية في أنواع الوقود، لكن ذلك ليس بالمطلق. العقل بخلاف البطن يرتاح مع الفراغ، وإذا ساءت نوعية الوقود فيه يزداد ضجيجه وتدخينه، لكنه أيضاً إذا تحسنت نوعية مدخلاته أزعج صاحبه بالتفكير العميق والحرمان من النوم المريح وبتأنيب الضمير على أتفه الأشياء. ثمة نقطة افتراق مهمة أخرى بين البطن والعقل، هي الفارق في القدرة التخزينية. قدرة البطن على التخزين محدودة حتى وهو يوزع أولاً بأول على مختلف أعضاء الجسم كلوازم تشغيل، بعكس العقل. قدرة العقل التخزينية هائلة، وتخضع غالباً للظروف المحيطة ولا تفرط بممتلكاتها بسهولة، لأن كل عقل يعتبر ما بداخله فقط هو عين العقل. العقول تحتاج إلى عقود من المعاناة والخسائر والمصائب حتى تصل إلى غربلة محتوياتها وإعادة النظر فيها، وغالباً ما يتم ذلك بعد فوات الأوان، لأن العادة هي أن المصائب والإخفاقات تصنف على أنها مجرد امتحان كعقاب على عدم الالتزام بحيثيات البرمجة العقلية السابقة. على مر التاريخ البشري كان اختيار البرامج الغذائية للبطن هو المهمة الابتدائية والأساسية لبرمجة عامة الناس المحرومين ظرفياً من نعمة التفكير، لأن حاجاتهم العقلية والمعرفية تتراجع منكمشة في أماكن قصية خلف الغرائز والمتطلبات الاشباعية اليومية التي تفرضها متطلبات الجسد. المهمة الصعبة لبرمجة عامة الناس كانت هي البرمجة العقلية، حيث يتوجب على المبرمج أن يختار بمهارة بالغة ما يريد إدخاله في العقول. لابد أن يصطنع المبرمج للناس خلطة فطرية مقنعة لا تشعرهم صورياً بانفصاله عنهم مهما كان منفصلاً عنهم في الواقع المعيشي، وأن تقنعهم بأنهم في كل الأحوال أفضل من الآخرين وأن عليهم أن يكونوا مستعدين للدخول في صراع حياة أو موت مع من يحاول تعريض البرامج لمنطق العقل. تزداد الخطورة كلما زاد انتشار البرامج العقلية، فيما يشبه ما يحصل في قرصنة البرامج المعلوماتية الإلكترونية. المبرمج الأول ينتج عشرة أتباع قادرين على البرمجة مثله، وهؤلاء يبرمجون مائة، ثم تنتشر البرمجة في البيوت والمدارس والدكاكين والمؤسسات العامة. لدينا في المملكة العربية السعودية مثالان حيان على أفعال مثل هذه البرامج، هما انتشار الفكر القاعدي التكفيري والفكر الإخواني كتطبيق سياسي، وليس كما هو مكتوب على الورق أو يقال في الفضائيات. كلا النوعين من البرمجة يستخدم نفس الطريقة في الاستحواذ على بسطاء الناس وعامتهم، وكل واحد منهما يختار ما يناسبه من الوقود للشحن، ولكن الاختيارات كلها من الماضي، تؤجج العواطف وتحوم مبتعدة عن التمحيص العقلاني، لأن ذلك يكون كفيلاً بإطفاء حماس الجماهير لها ولدعاتها. اليوم أصبح لدينا قتلة ومساجين وتكفيريون كمنتجات للبرمجة القاعدية، وصار لدينا أيضاً دعاة يتبخترون تيهاً وإعجاباً على مسارح الدعوة الإسلامية ويبتزون مجتمعاتهم وأوطانهم وحكوماتهم بالفكر الإخواني على كل المنابر. وما دام الموضوع في برمجة العقول ونتائجه ولأن الشيء بالشيء يذكر إليكم هذا المثال على النتائج المحتملة لبرمجة عقول البسطاء: في ستينيات القرن الماضي بدأ الأب المؤسس لفكر المحافظين الجدد في أمريكا ببرمجة أعداد بسيطة من طلابه لمشروعه الكبير. هنري ليفي ستراوس (وهذا هو اسم الأب الروحي لمشروع المحافظين الجدد) كان يهودياً هارباً من ألمانيا إلى أمريكا في الحرب العالمية الثانية. بعد أن استقرت له الأمور في أمريكا بدأ نشاطه في البرمجة العقلية لمشروعه. من أولى توصياته للمقربين من تلاميذه أن يحذروا نشر الثقافة العالية بين عامة الناس، وأن يركزوا على مطالب توفير الطعام والبضائع الاستهلاكية لهم. لقَّن تلاميذه المخلصين أن السيطرة العقلية على الجماهير تتطلب عدداً صغيراً من المفكرين والدعاة والمروجين ليؤدوا دور المحرك، ولكن المحرك يحتاج إلى وقود، فلتكن الجماهير المحدودة التفكير هي الوقود. اليوم يتحكم المحافظون الجدد بمفاصل أقوى دولة في الأرض، وعن طريقها بأغلب مقدرات العالم.