وأنا أقلب صحفنا المحلية الصادرة يوم الأحد 17-2-1434ه، الموافق 30-12-2012م، التي اتشحت صفحاتها الأولى بمانشتات عريضة مبشرة بميزانية هائلة، تُعَد أضخم ميزانية في تاريخ بلادنا العزيزة الغالية حتى اليوم، إذ قدر حجم الإيرادات ب829 مليار ريال، فيما قدر حجم المصروفات ب820 مليار ريال، بفائض 9 مليارات، بعد أن تضاعفت 88 ألف مرة، وتجاوزت ميزانية العام الماضي، التي كانت أيضاً الأضخم في تاريخ بلادنا حتى ذاك الوقت، ب139 مليار ريال. أقول: وأنا أقلب الصحف الصادرة في ذلك اليوم، المترع بالخير والأخبار السعيدة، قفزت إلى ذهني فجأة حكاية طريفة، غير أنها ذات دلالة عميقة في سيرة حكامنا وقادتنا الأماجد، أذكر أنها نُشرت في جريدة المدينةالمنورة الصادرة في 18-4-1409ه الموافق 27-11-1988م، وعلى لسان الأستاذ محمد حسين زيدان، أوردها في رثائه للأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود، يرحمه الله، في معرض حديثه عن الجوانب الإنسانية في حياة الفقيد، إذ يقول الأستاذ زيدان: (فجعت مرة من غضبة الملك عبد العزيز في مسيرتي إلى الخرج، حتى إذا خرجت من مجلس الملك، ناداني الأمير محمد وأمام الشعبة السياسية قائلاً: لا تخف أنت في أمان. قلت: أنت أميري وأنا ابن المدينة تحميني نعم، ولكن أنا لا أخاف من أبيك.. فاكفهر وقال: إيش إيش.. قلت: أنا لا أخاف من عبد العزيز، لأنه ليس ظالماً ... إلخ). أجل، فمثلما كان زيدان ورفاقه، الذين عاصروا عبد العزيز، وعرفوا صلاحه وخوفه من ربه، وحرصه على العدل وخدمة شعبه، ومساعدة أُمّته، وهمّته العالية التي تناطح السحاب، فنحن اليوم في ظل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، يحفظه الله، لا نفاجأ أبداً، ولا تأخذنا الدهشة مطلقاً، حتى إن تضاعفت ميزانية بلادنا 88 ألف مرة، وزادت عن الميزانية السابقة ب139 مليار ريال، محققة نمواً قدره 20% لسبب جد بسيط: فقد عرفنا عبد الله بن عبد العزيز، الرجل الصالح، كما يحب أن نناديه باسمه مجرّداً هكذا، تواضعاً لربه، ولأنه لا يرى نفسه غير واحد منا، كما يؤكد في كل مناسبة، عرفناه قائداً صاحب همّة عالية، ونفس كريمة، وطموح لا تحده حدود، وإخلاص للعقيدة لا يدانيه إخلاص، وعشق لهذا الوطن لا يوصف، وحب لشعبه الوفي، يعجز حتى أرباب الشعر وفرسان الكلمة عن وصفه، فسكن قلوبنا وحملناه في وجداننا أعذب أنشودة. ومن يسترجع مسيرته سريعاً، وجهاده من أجل العقيدة، وحرصه على حماية الوطن، وتفانيه في خدمتنا، وحرصه على إزالة الصعاب من طريقنا، وسؤاله عنا ليل نهار، واهتمامه بأمرنا وكل شأننا، ليس منذ توليه سدّة الحكم في 26-6-1426ه الموافق غرة أغسطس عام 2005م، إثر رحيل الفهد، بل منذ شبّ عن الطوق وحياته كلها مكرّسة لخدمة الدين والوطن وهذا الشعب السعودي الوفي، الذي يبادل قادته حباً بوفاء. أقول: من يسترجع مسيرة قائدنا اليوم، وما حققه لنا من إنجازات، لوطننا من هيبة وأمن واستقرار، ولأمتنا من عزة وكرامة، وللإنسانية في شتى بقاع الأرض، على اختلاف ألسنتها، وتباين ألوانها وعقيدتها وأعراقها، من دعم ومساعدات سخية، ابتغاء وجه الله وإحساساً بالمسؤولية الجسيمة في الخلافة العظيمة التي أرادها الله للإنسان في الأرض، من يسترجع حياة هذا الرجل الصالح، الحافلة بالبذل والعطاء والسخاء، العامرة بالحب والإيمان والإخلاص، لن يستكثر عليه أي إنجاز يحققه، مهما بلغ من العظمة التي تناطح حتى المستحيل. لأنّ صاحب النية الصادقة المخلصة، مثل عبد الله بن عبد العزيز، مهيأ دائماً للأمور العظيمة، فالهمة العالية لا ترضى بغير المعالي، وهذا القلب الكبير العامر بحبنا، لا يرتاح إلا إذا اطمأن إلى سعادتنا كلنا. ولهذا ظل يعمل حتى وهو على السرير الأبيض يجالد الألم، فيستفسر عن أحوالنا، ويعزينا في موتانا ويواسي مرضانا، فيبعث لهم باقات الزهور متمنياً لهم عاجل الشفاء، فتتحوّل مواساته إلى بلسم شافٍ بإذن الله. وصحيح.. ربما لن يسع المجال هنا لاسترجاع مسيرة قائدنا، وما حققه الله لنا من خير وفير على يدي عبده الصالح عبد الله بن عبد العزيز، فتعالوا نعود بالذاكرة فقط لمثل هذا اليوم الذي صدرت فيه الميزانية من العام الماضي، عندما طالعتنا الصحف الصادرة في يوم الثلاثاء 2-2-1433ه، الموافق 27-12-2011م، تزف إلينا إعلان أضخم ميزانية في تاريخ بلادنا 690 مليار ريال، بزيادة 110 مليارات عن العام الذي سبقه. وقتها لم تسع الشعب الفرحة، وظن كثير من المراقبين الاقتصاديين في العالم، أن المملكة بلغت طاقتها القصوى من الإنتاج، وليس في مقدورها بعد ذلك أن تحقق أكثر من هذا إلاّ بهامش يكاد لا يُذكر. واليوم، يفاجئ خادم الحرمين الشريفين أولئك، فتحقق بلاده في ظل قيادته الرشيدة، قفزة أخرى، أعظم إنجازاً من ذي قبل، ليس هذا فحسب، بل إنه حقق هذا الإنجاز بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بثقته في ربه، وعزيمته التي لا تلين، وطموحه الذي لا حدود له، ودعم وليّ عهده الأمين، صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، خير خلف لخير سلف، حقق هذا في ظروف أكثر تعقيداً من العام الماضي، بسبب زيادة حدّة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالعالم اليوم، فزلزلت العروش في أكثر من بلد، وما زالت بلدان كثر تترنّح بسببها. أقول: ربما فاجأ إنجاز عبد الله اليوم آخرين، غير أنه لم يفاجئنا نحن، ربعه وعشيرته وشعبه الذي عهده دائماً صاحب بصمة مميّزة طيلة سيرته فينا، رغم أنّ توقعات كثير من المهتمين بالشأن الاقتصادي لميزانية العام الجديد لم تتجاوز ال760 مليار ريال. وصحيح أنّ عبد الله بن عبد العزيز هو رائد كل ما تحقق للوطن من إنجاز عظيم اليوم، غير أنني أعيد ما كرّرته مراراً في أكثر من مقال، مؤكداً أنّ كل ما نرفل فيه من خير، وما نتمتع به من نعيم اليوم، يعود فضله، بعد الله المنعم الوهّاب سبحانه وتعالى، إلى المؤسِّس، والد الجميع، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، طيَّب الله ثراه، الذي أسّس لنا وطناً شامخاً وحدّد له سياسة راسخة، مصدرها كتاب الله العزيز الحميد وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم علَّم أبناءه، وأدّبهم فأحسن تأديبهم، وهيأهم لتحمُّل المسؤولية من بعده على النهج الصحيح ذاته، لأنه مؤمن صادق، يدرك أنّ الخلود لله وحده، وأنه صاحب رسالة لابد لها من رجال أفذاذ يحملون مشعلها بحقه. ولأنه كان صادقاً مع ربه ورجلاً صالحاً، فقد استجاب الله دعاءه، ولم يخيب ظنه، فتعاقب أبناؤه البررة على تحمُّل المسؤولية وقيادة السفينة، على النهج نفسه الذي حدّد معالمه عبد العزيز، فكان كل خلف يعلي بنيان ما ورثه من السلف من تنمية وتطوير، حتى وصلنا إلى عهد خادم الحرمين الشريفين اليوم، الملك عبد الله بن عبد العزيز، فتحوّلت بلادنا من صحراء قاحلة إلى واحة ظليلة، يتقلّب أهلها في النعيم، ويمتد ظلّها الوارف ليخفف المعاناة عن شعوب كثيرة في عالم يموج بالفتن ويطفح بالابتلاءات. ومن يتأمّل مسيرة البناء والإصلاح في بلادنا، يدرك حقيقة ما أقول، ففي كل عهد يتحقق لنا من الإنجاز أعظم مما تحقق لنا في العهد السالف، وكل مجال من مجالات الحياة في بلادنا يؤكد هذه الحقيقة الراسخة، غير أنني أكتفي هنا فقط بمجال التعليم، الذي تحوّل من 33 كتَّاباً متواضعاً في عهد المؤسِّس، أنشأها من العدم، إلى 47 جامعة، بها أكثر من 60 مدينة جامعية بمواصفات عالمية، وبالطبع ما كان لهذا أن يتحقق لولا فضل الله، ثم تلك السياسة الثابتة الراسخة التي حدّدها المؤسِّس. ولم يقتصر الأمر على البناء والتجهيزات الراقية، التي أهّلت ثلاثاً من جامعاتنا العملاقة (جامعة الملك سعود، جامعة الملك فهد للبترول، وجامعة المؤسِّس) لاحتلال المرتبة الأولى عربياً وإسلامياً، حسب تصنيف شانغهاي العالمي للجامعات في نسخته الأخيرة، الصادرة في شهر أغسطس من العام الماضي. وفي هذا دلالة قاطعة على ما تشهده بلادنا من تطوّر مذهل في مجال التعليم العالي.. أقول: لم يقتصر الأمر على التجهيزات فحسب، بل شمل الكادر البشري، الذي هو عماد هذا كله، وهدف كل تنمية وتطوير، فأبدع أبناؤنا وأدرجت أسماؤهم ضمن قوائم المتفّوقين والمخترعين في أرقى جامعات أوروبا وأمريكا. فليس عجباً إذن أن يحظى التعليم دائماً بنصيب وافر في كل ميزانية. وبعد.. لقد أدى الرجل أمانته على الوجه الذي يرضي ربه، وبرئت ذمّته من أي ظلم أو تقصير، وبقي الدور علينا نحن المسؤولين، وعليه أناشد الجميع، ومحدّثكم أولهم، أن نتقي الله فيما أوكله لنا وليّ الأمر من أمانة عظيمة، فنسعى جاهدين لأدائها على الوجه الذي يرضي الله، ونكون خير عون لقائد يرى نقاهته من المرض في الانكباب على العمل الدؤوب من أجلنا، مؤكداً لنا كل يوم أن خدمة المواطنين أمانة عظيمة في عنقه، ومحذّراً تارة: (لا عذر لكم بعد اليوم في أي تقصير أو تهاون أو إهمال، واعلموا أنكم مسؤولون أمام الله، جلّ جلاله، ثم أمامنا عن أيّ تقصير يضر بإستراتيجية الدولة التي أشرنا إليها ... إلخ)، وراجياً تارة أخرى: (إنّ الأمل بكم بعد الله، ولذلك أطلب منكم جميعاً التعاون، وبذل كل جهد ممكن لمشاركة الدولة فيما ذكرناه أعلاه، آخذين بعين الاعتبار مصالح الوطن والمواطنين ... إلخ). والحقيقة، كل مواطن ومقيم على تراب هذا الوطن الطاهر، معني بنداء مليكنا المفدّى، فلنستحضر مناشدته لنا عند كل عمل نقدم عليه: (أعينوني على تحمُّل الأمانة). فاللهم احفظ لنا قائد مسيرتنا، وحادي ركبنا، عبدك الصالح، عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، خادم الحرمين الشريفين.. وحارس الأُمّتين، ووليّ عهده الأمين، مؤكِّدين العزم ومجدِّدين الولاء بلسان شاعرة الوطن الكبيرة، مستورة الأحمدي، يرحمها الله، في أوبريت (قبلة النور) الرائع: نختلف في كل شيء إلا عليك يا وطن ما دام عبد الله مليك لا شريك لربنا في قلوبنا وفي ولانا ما لكم فينا شريك