في مقال سابق تم نشره في جريدة الجزيرة في عدد رقم 14362 بتاريخ 1-3-1433ه، تطرقت لمبادرة الدكتور عبد الله الغذامي (مسكني) والتي اعتبرت في ذلك المقال أنها سلطت الضوء على مشكلة خطيرة ولكنها لم تطرح حلاً لهذه المشكلة على المدى القريب أو البعيد. وأوضحت أيضاً بعض العوامل التي أدت إلى تفاقم الأزمة الإسكانية والتي كان من ضمنها تباطؤ الجهات التشريعية عن إصدار آليات وضوابط لجباية الزكاة على الأراضي والعقارات المعدة للبيع، ثم أشرت إلى بعض العوائق المتوقعة لجباية الزكاة الشرعية على الأراضي البيضاء والعقارات المعدة للبيع، وفي هذا المقال سأقوم بتسليط الضوء على طبيعة المشكلة وآلية مقترحة لعلاج هذه المشكلة. أولا: طبيعة المشكلة والحلول المطروحة يمكن القول بأن الأزمة الإسكانية ببساطة هي أزمة احتكار قلة من (الهوامير) لمخزون الأراضي أدت إلى ارتفاع الأسعار بصورة يتعذر معها أن يقوم ذوو الدخل المتوسط بتملك منزل إلا بعد مرور مدة طويلة قد تتجاوز 15 سنة على أقل تقدير. لأنه يوجد ضوابط وأنظمة تقيد حدود التملك للأراضي وعمليات الشراء وإعادة البيع وضوابط إبرام الصفقات العقارية مع الأخذ في الاعتبار عدم قيام الجهات الرقابية بجباية الزكاة على الأراضي والعقارات المملوكة للأفراد.. وهو الأمر الذي دفع بعض الشركات لاستغلال هذه الثغرة من خلال القيام بشراء مخططات ضخمة وتسجيلها باسم أحد الشركاء للتهرب من دفع الزكاة. ومقالي هذا هو محاولة لتوجيه الأنظار للحلول الاقتصادية الممكنة والعملية لهذه الأزمة والتي تكمن ببساطة في إزالة أسباب هذا الاحتكار أو التخفيف منه من خلال عدة أدوات (حلول) أوجزها في الوسائل الآتية: 1) إلزام كل مواطن يملك أراضي بيضاء داخل المدن الرئيسية بما يزيد على 1000م2 إما ببناء هذه الأراضي أو بيعها خلال مدة معينة تحدد لاحقا من تاريخ صدور القرار. 2) إصدار قرار بنزع ملكيات المنح غير المستغلة والتي مضى على مرورها أكثر من ثلاث سنوات وفق ضوابط وآليات معينة. 3) إصدار قرار بزيادة معروض الأراضي بصورة رأسية من خلال التوسع في السماح ببناء الأدوار والشقق السكنية وفقا لضوابط معينة، حيث سيؤدي هذا الأمر إلى زيادة كبيرة في معروض الشقق المفروشة للتمليك وللإيجار وهو الأمر الذي سيلبي الطلب المرتفع عليها وسيخفض أو يثبت من أسعار الشقق وأسعار الإيجارات السنوية لها على المدى البعيد. 4) محاصرة الهوامير بفرض وجباية الزكاة الشرعية على الأراضي البيضاء والمشاريع غير المستغلة (غير المأهولة) سواء كانت لأفراد أو لشركات فطالما أنها غير مستغلة وتجاوزت حد الإعفاء فهذا كنز للأموال وتعطيل لمصالح المسلمين وعليه إما أن يدفع التاجر الزكاة الشرعية وإما أن يستثمر هذه الأراضي والعقارات فيؤجرها للغير وفق ضوابط وآليات معينة للحد من التحايل والتلاعب. وهذا المقال سيطرح بعض الآليات والضوابط المقترحة لجباية الزكاة على الأراضي البيضاء والعقارات غير المستغلة، وقد ذكرت في الجزء الأول من هذا المقال بأن المشكلة الأساسية ليست في عدم توفر الأنظمة والنصوص التي توجب الزكاة على الأراضي البيضاء والعقارات المعدة للبيع كما يظن البعض، وإنما تكمن في عدم توفر الآليات لجباية الزكاة المستحقة للفقراء لدرجة جعلت البعض يبحث عن حلول أخرى تتمثل في فرض رسوم (ضرائب) على الأراضي، أضف إلى ذلك أن التاجر يقوم بالتهرب أحيانا من خلال القيام بإجراءات يتخلص فيها من دفع الزكاة مثل أن يقوم بنقل ملكية هذه الأرض من اسم الشركة إلى اسمه أو من خلال إبرام عقد تأجير وهمي للأرض أو من خلال تسجيل الأرض ضمن سجلات الشركة على أنها أصل ثابت وهي في الواقع استثمار بغرض البيع وهكذا. لذا فإن الحل الأمثل لمحاصرة هذه التصرفات يتمثل في وضع آليات وضوابط دقيقة يترتب على مخالفتها تبعات قانونية ومالية صارمة وهذا المقال يسلط الضوء على بعض هذه الآليات التي من الممكن أن تساهم في فك احتكار الأراضي والعقارات في السعودية. ثانيا: الآلية المقترحة لفرض وجباية الزكاة الشرعية أولا: حول الآلية: هذه الآلية تهدف في الأساس إلى الحد من آثار احتكار الأراضي من خلال تحديد آليات فرض وجباية الزكاة على الأراضي والعقارات المعدة للبيع باستخدام التقنيات المتاحة. ثانيا: الجهات المشرفة والمنفذة: يقترح لتطبيق هذه الآلية تكوين لجنة عليا من مختلف الجهات الحكومية ذات العلاقة بالمشكلة الإسكانية بالإضافة إلى مشاركة بعض المكاتب الاستشارية والبنوك من القطاع الخاص، حيث تكون هذه اللجنة إشرافية ويكون التطبيق من خلال عدة شركات استشارية ذات سمعة طيبة تكون تحت إشراف هذه اللجنة، وتقوم اللجنة بتحديد مهامها وأتعابها، كما يقترح أن يتم تعيين مراقب من القطاع الخاص أو أكثر يراقبون تطبيق هذا المقترح ويرفعون تقاريرهم لهذه اللجنة ويتم نشر تقاريرهم للجمهور في موقع المشروع الإلكتروني أولا بأول. ثالثا: المدة المتوقعة لبدء التنفيذ: يتوقع أن تبدأ جباية الزكاة خلال سنتين من تكوين اللجنة حيث من المرجح أن يتم جمع البيانات ومطابقتها ومراجعتها خلال السنة الأولى من بدء أعمال اللجنة ويتم مراجعة هذه البيانات ومعالجة المشكلات وفرض وجباية الزكاة خلال السنة الثانية. رابعا: التهيئة لتنفيذ هذه الآلية: يحتاج مشروع فرض وجباية الزكاة على الأراضي إلى قاعدة بيانات حاسوبية يتم تحديثها أولا بأول بصورة آلية من خلال وضع نظام تربط فيه جميع كتابات العدل والمكاتب العقارية وبيانات وزارة الداخلية حيث عندما يتم تأجير الأرض أو العقار أو بيعه أو شراؤه تتأثر بيانات هذا النظام بجميع هذه العمليات. لذا فإن تطبيق هذا النظام يتطلب التعاقد مع إحدى الشركات المتخصصة في النظم البرمجية والتي لها خبرة في التعامل مع الدوائر الحكومية كما يتطلب تخصيص فترة للتهيئة يتم فيها جمع البيانات من واقع الوثائق الحكومية بالإضافة إلى تعزيز صحة هذه المعلومات من خلال أخذ إقرارات المواطنين بصورة إلكترونية سنويا. خامسا: آليات التطبيق: 1- في البداية يتم إعداد حصر لملاك الأراضي والعقارات ضمن قاعدة إلكترونية سواء من الأشخاص الطبيعيين (الأفراد) أو الاعتباريين (القطاع الخاص والعام) على مستوى المملكة في نهاية كل سنة مالية هجرية من خلال الوثائق الحكومية في كتابات العدل بالإضافة إلى إقرارات المواطنين والجهات الاعتبارية. 2- يتم التحقق من البيانات المحصورة وفقا للوثائق الحكومية من خلال قيام المواطنين بتعبئة نموذج الإفصاح الإلكتروني عن الممتلكات العقارية مع التعهد بعدم التلاعب في البيانات. 3- يتم مطابقة بيانات كتابات العدل حسب سجلاتها مع البيانات الواردة من المواطنين وفقا لإفصاحهم ودراسة أسباب الفروقات أو الاختلافات إن وجدت. 4- بالنسبة للشخص الطبيعي (الأفراد) فإن المقترح أن يكون حد الإعفاء من الزكاة على الأراضي البيضاء بواقع 2000 متر مربع لكل مواطن، وهو ما يعني إنه سوف يخضع للزكاة جميع ما يمتلكه المواطن من الأراضي البيضاء والذي يزيد عن حد الإعفاء. 5- لا يوجد حد إعفاء من الزكاة على العقارات المملوكة للشخص الطبيعي (الأفراد) حيث تستحق الزكاة على قيمة العقار إذا كان داخل الحيز العمراني في المدن الرئيسية وكان معروضا للبيع. 6- لأغراض جباية الزكاة فإنه سيتم اعتبار أي عقار شاغر ضمن النطاق العمراني في المدن الرئيسية على أنه معروض للبيع تستحق عليه الزكاة عند حولان الحول نظرا لأن ترك العقار شاغراً يُعد حرماناً للمسلمين من الانتفاع من هذا العقار، فضلا على أن هذا سيتسبب في زيادة أسعار الإيجار على المستأجرين. 7- لأغراض جباية الزكاة فإن الفلل والمباني المؤجرة بالكامل لا زكاة على عينها وإنما يخضع ريعها للزكاة فقط طبقا لإقرارات المكلفين ووفقا لعقود التأجير الالكترونية شريطة أن يكون عقد التأجير حقيقيا، حيث تقوم لجان بتدقيق هذه العقود والتحقق من صحتها وواقعيتها وفي حال ثبت لدى هذه اللجان بكافة أساليب الإثبات وهمية هذه العقود فيتم فرض غرامة بواقع 5% من قيمة العقار لكل سنة. 8- بالنسبة للأشخاص الاعتباريين (القطاع الخاص والحكومة) فإنه يتم فرض وجباية الزكاة على جميع المباني والأراضي غير المستغلة إذا حال عليها الحول نظرا لأن أي أرض بيضاء أو مبنى غير مأهول أو مهمل قد حال عليه الحول يعتبر مالاً معطلاً تجب فيه الزكاة مع مراعاة عدم الثني في فرض الزكاة خصوصا إذا قامت الشركة بسداد الزكاة عن هذه الأراضي البيضاء أو العقارات باعتبارها عروض تجارة ضمن إقراراتها المقدمة لمصلحة الزكاة والدخل. 9- يدخل في احتساب الزكاة العقارات غير المأهولة والمعروضة للبيع أو للإيجار والتي حال عليها الحول دون شغلها. 10- الأراضي والعقارات المسجلة باسم متوفين تستحق زكاتها على الورثة ويقوم الوكيل الشرعي بسداد زكاتها نسبة وتناسب حيث يتم توزيع أمتارها على الورثة حسب التقسيم الشرعي. 11- الأراضي البيضاء أو المباني غير المأهولة أو المهملة والمملوكة لجهات حكومية أو خاصة (اعتبارية) تقوم كل وزارة أو جهة باحتساب الزكاة المستحقة عليها ثم سدادها إلى الحساب المخصص لمتحصلات الزكاة باسم اللجنة المكلفة. 12- يتم تقييم الأراضي وفقا للقيمة السوقية لها من خلال الشركات المتخصصة في مجال التثمين تحت إشراف لجنة رقابية يكون أعضاؤها متخصصين في النواحي المالية والحقوقية والعقارية شريطة أن يكون مستقلين. 13- بالنسبة للأشخاص الطبيعيين (الأفراد) فإنه يتم احتساب الزكاة كما يلي: الزكاة المستحقة = متوسط القيمة السوقية للأراضي والمباني المملوكة للمواطن بعد حسم حد الإعفاء في نهاية السنة التي حال عليها الحول × 2.5% 14- بالنسبة للأشخاص الاعتباريين (القطاع الخاص) فإنه يتم احتساب الزكاة كما يلي: إجمالي الزكاة المستحقة = الزكاة المحسوبة بواسطة مصلحة الزكاة والدخل طبقا للبيانات المالية المقدمة من المكلف + متوسط القيمة السوقية للأراضي البيضاء أو المباني غير المستغلة × 2.5% بافتراض عدم إدراج قيمة هذه الأراضي أو العقارات ضمن البيانات المالية كعروض تجارة. 15- بالنسبة للأشخاص الاعتباريين (القطاع العام) فإنه يتم احتساب الزكاة كما يلي: إجمالي الزكاة المستحقة = متوسط القيمة السوقية للأراضي البيضاء أو المباني غير المستغلة× 2.5% 16- جميع المتحصلات يتم إيداعها في حساب مخصص لزكاة الأراضي والعقارات باسم اللجنة ويتم صرفها سنويا لجميع المستحقين ممن لا يملك مسكناً وفق ضوابط معينة تحددها اللجنة. 17- الأراضي أو العقارات التي عليها قضايا ومنازعات في ملكيتها يتم فرض الزكاة وجبايتها مناصفة بين طرفي النزاع سنويا ويتحمل الزكاة الطرف الخاسر في القضية أو حسب ما يحكم به القضاء. 18- لأغراض جباية الزكاة فإنه لن يتم الاعتداد بأي عقود لتأجير مستودعات إذا كان واقعة ضمن النطاق السكني وليس الصناعي في المدن الرئيسية. 19- لأغراض جباية الزكاة فإنه لن يتم الاعتداد بتأجير أي أرض بيضاء إذا مر عليها سنة دون استغلالها أو بنائها. 20- لأغراض جباية الزكاة فإنه لا يتم الاعتداد بنقل الملكية من خلال البيع ثم إعادة الشراء مرة أخرى إلا بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات وذلك لأجل تقليص محاولات التهرب من دفع الزكاة. 21- أي مباني أو فلل أو شقق سكنية أو مكاتب تجارية يحول عليها الحول دون أن يقوم صاحبها بتأجيرها تعتبر مباني غير مستغلة بالإضافة لكونها دليلا على أنها عروض تجارة لذا فتستحق عليها الزكاة الشرعية وذلك لأن حبس منفعتها عن الجمهور يعتبر تجميدا لها وكنزا للثروات ويساهم في رفع أسعار الإيجار. 22- هناك أنظمة إلكترونية من المزمع تطبيقها مثل نظام (إيجار) وغيرها قد يساهم في تطبيق هذا المقترح بصورة أسرع. 23- يمكن الاستغناء عن بعض الضوابط المذكور آنفا إذا تم اعتماد أن الزكاة تستحق على مالك الأرض أو العقار عند نهاية كل سنة هجرية بغض النظر عن حولان الحول عليه. سادسا: النتائج المتوقعة من تطبيق هذه لآلية: 1- توجيه رؤوس الأموال المجمدة في العقارات للاستثمار في مشاريع تنموية نافعة بدلاً من كنزها في مجالات لا تنفع الوطن والمواطن. 2- إعادة توزيع الثروات بين طبقات المجتمع من خلال ضخ قيمة كبيرة من الإيرادات الزكوية لصالح الطبقة الفقيرة والتي غالبا سوف تستخدم لسداد قيمة الإيجارات السنوية. 3- انخفاض قيمة العقار والإيجارات نسبيا وبشكل متدرج نظرا لتحرك رؤوس الأموال المجمدة للاستثمار في مجالات تنموية أخرى وهذا في الغالب سيكون في صالح الطبقة الوسطى حيث ستتمكن هذه الطبقة من شراء أراض أو عقارات خلال مدة معقولة. ونرى أن مستوى النتائج سوف يتعاظم إذا ما تزامن مع تطبيق هذه الآلية تطبيق حلول أخرى مثل: نزع ملكيات المنح غير المستغلة، وإلزام صاحب الأرض البيضاء بالبناء أو البيع خلال مدة معينة والسماح ببناء عدة أدوار...إلخ. وأخيرا: يمكن القول بأن هذه الأزمة لن تجد حلاً جذريا إلا من خلال وصفة علاجية تتكون من مزيج من هذه الحلول يتم تطبيقها بصورة متدرجة ومتجردة ومتوازنة، وهذا من الناحية الواقعية قد يكون أصعب مما قد يتصور البعض، والخروج من هذه الأزمة يحتاج إلى تظافر الجهود الصادقة لتبني هذه الحلول وتذليل العقبات أمام تطبيقها حسب الإمكان. والله أعلم. Twitter: @tmash388