تكونت انطباعاتي مباشرة من الحياة، ومن الكتب, ويمكن مقارنة انطباعاتي الاولى بمواد الخام الاولية، اما الثانية فكانت كالقطعة نصف المصنعة، او بكلام فج، كي يكون واضحا، في الحالة الاولى، كان امامي حيوان، اما في الحالة الثانية، فقد سلخ جلده، وصنع تصنيعا جيدا, اني مدين جدا للأدب الاجنبي وخاصة الأدب الفرنسي. لقد كان جدي قاسيا وبخيلا، ولكن لم أره، ولم افهمه جيدا، كما رأيت وفهمت يفغيني غراندي عندما قرأت بلزاك التي تحمل العنوان نفسه, فأبو يفغيني العجوز غراندي، كان بخيلا وقاسيا ايضا وعموما يشبه جدي, ولكنه كان اشد غباء من جدي, وليس ممتعا مثله، وبمقارنتي بين العجوز الفرنسي وبين العجوز الروسي الذي لا احبه ربحت وكبرت وذلك لم يجعلني اغير علاقتي بجدي ولكن كان ذلك فتحا كبيرا، فالكتاب الذي يحتوي هذه الموهبة، جعلني ارى فيه ما لم اكن اراه، وعرفت فيه، ما لم اكن اعرفه. لم اتبع في قراءاتي، اي برنامج، تم ذلك مصادفة، فأخو معلمي، فيكتور سرغييف احب قراءة الروايات الفرنسية كسافية دي مونتين، غابور ريو، زاكونيه، بوفيه, وأنا أيضا قرأت قطيع بانورغوف كريستوفسكي، لا الى مكان ستينبيتسكي ليسكوف وسراب كليوشنيكوف، والبحر الهائج بيسيمسكي, كان من الممتع ان أقرأ عن اناس لا يشبهون الناس الذين أعيش بينهم بشيء. لقد اثّر الادب الفرنسي فيَّ تأثيرا عميقا حقيقيا، ستندال بلزاك فلوبير وأنصح الكتّاب الشباب المبتدئين بقراءتهم وفي الحقيقة، ان هؤلاء الفنانين عظماء والأدب الروسي لا يمتلك بعد فنانين كهؤلاء لقد قرأتهم باللغة الروسية، وهذا لم يمنعني من ان أحس بقوة فن الفرنسيين فبعد قراءتي لكثير من الروايات وبعد قراءتي ماين ريد، وكوبير غوستاف ايمارو بنسون ديوتيرايل، فقد ايقظت قصص الفنانين العظماء هؤلاء، في نفسي انطباعات عجيبة. وعموما ان فن رسم الناس بالكلمات، فن يجعل كلامهم حيا ومسموعا وان جودة الصنعة، وابداع الكلمة، وعند بلزاك والفرنسيين ادهشاني دائما, ولكأنما كُتُب بلزاك قد رسمت بطلاء زيتي وعندما رأيت لأول مرة لوحات روبنسن، تذكرت بلزاك حالا، وعندما قرأت دوستويفسكي بشغف حتى الوله، اعتقدت انه مدين لهذا العبقري، الروائي العظيم, واعجبتني ايضا كتب غونكورف الواضحة، وكذلك رسم زولا, اما روايات هيجو فلم تستهوني حتى رواية العام الثالث والتسعين قرأتها بلا مبالة. اما روايات ستندال، فقد قرأتها بعدما تعلمت ان امقت أشياء كثيرة كالكلام الهادىء والابتسامات الخبيثة التي ملؤها الشك كل هذا أثار مقتي. من كل ما قلت عن الكتب، اخلص الى القول، انني تعلمت الكتابة لدى الفرنسيين ولقد كان ذلك مصادفة محضة وهذا لم يكن سيئا, ولهذا السبب انصح بالحاح، الكتاب الشباب ان يتعلموا اللغة الفرنسية كي يتمكنوا من قراءة الكتاب العظماء بلغتهم الاصلية ويتعلموا منهم فن الكلمة. الأدب الروسي الكبير غوغل، تولستوي تورغينف، غانشاروف ودوستويفسكي ليسكوف فقد قرأته متأخرا جدا, ولقد أثر ليسكوف فيَّ تأثيرا عظيما، دون أدنى شك بمعارفه الواسعة، ولغته الفنية, انه كاتب ممتاز وعليم بالمجتمع الروسي، ولم تقوّم بعد، خدماته في أدبنا، ولقد قال تشيخوف انه مدين لهذا الكاتب وكذلك ريميزوف, اني اشير الى هذه المؤثرات والعلاقات المتبادلة كي اعيد القول: من الضروري معرفة تاريخ تطور الأدب الاجنبي. عندما بلغت العشرين بدأت افهم ما رأيت وما سمعت، وما عشت، حتى كان من الضروري ان احدث الناس عن تلك الأشياء، ولقد خيل الي اني اعرف واحس بأشياء لا يعرفها الآخرون، وهذا حيرني واقلقني, وحتى عندما قرأت كبار الكتاب، مثل تورغنيف، كنت اتساءل، هل بوسعي، ان احدث الناس عن ابطال مذكرات صياد بشكل مغاير لما كتبه تورغنيف في هذه الأعوام عدوني راويا حكّاءً ممتازا، ولقد اصغى الي باهتمام وانتباه كبيرين الحمالون، والخبازون، والمتشردون ، والنجارون، وعمال سكك الحديد، والجوالون ، وعموما، كل الناس الذين عشت بينهم, كنت احدثهم عن الكتب التي قرأتها، واكتشفت اني كنت احدثهم بشكل غير دقيق عن هذه الكتب، واشوهها، وأضيف اليها من مخيلتي، ومن تجربتي الشخصية، حدث هذا، لان وقائع الحياة والأدب امتزجت عندي في وحدة كلية فالكتاب، ظاهرة من ظواهر الحياة، كالانسان وهو اي الكتاب حقيقة حية ناطقة، وهو أصغر من غيره من الأشياء الاخرى، التي يصنعها الانسان. سمعني المثقفون، ونصحوني: اكتب! جرب ان تكتب! كثيرا ما كنت اشعر، وكأنني أعاني نوبات الثرثرة، في الكلام عن الأدب وذلك من رغبتي في التحدث عن كل ما يزعجني ويفرحني اردت الكلام من اجل ان افرغ شحناتي وعشت لحظات موجعة، من جراء نوبات هستيرية اذ كنت احس، انه قد وقف حجر في بلعومي وأريد ان ازعق. كتبت الشعر بسهولة، لكني رأيت ان اشعاري رديئة حتى القبح، واحتقرت نفسي لعدم مقدرتي وعدم موهبتي في كتابة الشعر,, قرأت اشعار بوشكين وليرمونتوف ونيكراسوف، وكنت احس جيدا، اني لا أشبه احدا من هؤلاء الشعراء اما النثر، فلم اقرر كتابته، لانه خيل الي، ان كتابة النثر، أصعب من كتابة الشعر، وانه يتطلب نظرة صائبة حادة، وان الموهبة في كتابة النثر مرصوصة، ومنسقة ومنسجمة، بشكل غير عادي، ولكن مع ذلك، صرت أجرب كتابة النثر، غير اني اخترت اسلوب النثر المقفى مكتشفا بذلك اسلوبي البسيط، ولكن محاولاتي الكتابية تلك، جعلتني كئيبا ومضحكا, كتبت قصيدة كبيرة بالنثر المقفى اغنية البلوطة القديمة فشطب كورلينكو عشرات الكلمات منها، حتى وصل الى جذور هذا النوع من الشجر, وكنت قد ضمنت تلك القصيدة افكاري حول مقالة تعاقب الحياة التي نشرت ان لم اخطىء، في المجلة العلمية المعرفة . الا ان كورلينكو، لم يشفني من محاولاتي في كتابة النثر المقفى، وبعد مضي خمسة اعوام، مدح قصتي الجد أرخيب وقال عبثا اني ضمنت القصة شيئا يشبه الشعر , عندها لم أثق بكلامه, ولكن، في البيت عدت الى القصة، فتأكدت بمرارة، ان صفحة كاملة سردتها، في وصف المطر في السهوب، وقد كتبتها بهذا النثر المقفى الذي تبعني طويلا بشكل غير ملحوظ، وتسلل الى قصصي، كان في غير مكانه, كنت ابدأ قصصي بعبارات غنائية، هكذا مثلا: مرت أشعة القمر من خلال غصون، شجرة المشمس كنت اشعر بالعيب، بعد ان تنشر وعموما حاولت ان اكتب بشكل جميل : السكير المتكيء على عمود المصباح الكهربائي، نظر باسما الى ظله الذي يرتجف والليل حسب كلماتي، كان هادئا ومقمرا، وفي مثل تلك الليالي لم ينيروا المصابيح الكهربائية, والظل لا يتحرك, واذا لم تكن ثمة ريح، فالنار تشتعل بهدوء, ووصف كهذا وفلتات من هذا النوع وجدت تقريبا في كل قصة من قصصي ووبخت نفسي بشدة وحاسبتها على ذلك, ضحك البحر كتبت ذلك، واعتقدت طويلا، ان هذا جيد, فسعيا وراء جمالية العبارة، كنت دائما، اقترف ذنوبا بحق دقة الوصف، ولم اضع الأشياء في مكانها، ولم انور الناس بشكل أمين, اما وضعية الفرن عندك فلسيت صحيحة كانت تلك هي ملاحظة ليف تولستوي،عندما تحدث عن قصتي ست وعشرون وواحدة , ولقد تبين ان النار في الفرن المنحرف الزاوية، لا تقدم للعمال النور الكافي، كما هو عليه الوصف عندي. تلك كانت اخطاء صغيرة، لكنها تحمل مغزى كبيرا، لأنها تخرق حقيقة الفن وعلى كل حال من الصعب جدا ايجاد الكلمات الدقيقة، ووضعها في مكانها، وفي الوقت نفسه لم تكن قد قيلت من قبل الكثيرين بحيث تكون الكلمات مطابقة بإحكام للافكار المطروحة فان تصور الكلمات لوحة حية، وترسم الصفات الدقيقة للشخصيات، وتتثبت بسرعة في ذاكرة القارىء وتزين الناس، هذا امر، وان يكون الوصف متناغما حيا بحيث يتمنى المرء ان يمس بيده ماهو مصور، كما كنت اتمنى ان امس أبطال الحرب والسلم عند تولستوي فانه امر آخر. كنت بحاجة لان اصف المظهر الخارجي لبلدة تقع وسط روسيا، ببضع كلمات، وكان ذلك يتطلب مني ثلاث ساعات حتى يسعفني الحظ، بانتقاء الكلمات ووضعها في مكانها المناسب: في وسط السهل المتموج المقسم بدروب موحلة تقع بلدة اوركوف المبرقشة التي تشبه علبة مزينة على كف كبيرة مجهدة ,خيل الي اني كتبت هذا بشكل صحيح وجيد، وعندما نشرت القصة، رأيت ان ما كتبته يشبه الكعكة المنقوشة، او علبة شوكولاته جميلة. ان عدم نجاحي جعلني اتذكر دائما كلمات الشاعر الحزينة: ليس في العالم ألم، اقوى من ألم الكلمة . وحول هذا الموضوع، تحدث بشكل افضل مني، غورتفليد في كتابه اوجاع الكلمة الذي صدر عام 1927 انه لكتاب جيد جدا، وانبه زملاء القلم المبتدئين الى قراءته, باردة، بائسة وشحيحة هي لغتنا اعتقد انه قالها نادسون وندرة هم الشعراء الذين اشتكوا من بؤس اللغة واعتقد ان الشكوى من بؤس اللغة ليست شكوى روسية، بل هي شكوى عالمية، والذي يدعو الى هذه الشكاوى ان هنالك مشاعر وافكارا لا يمكن ان توصف بالكلمات. عن كتاب كيف تعلمت الكتابة لمكسيم غوركي