اطلعت في صفحة عزيزتي الجزيرة، يوم الأحد 25-1-1434ه، العدد 14682، ص18، على ما كتبه الأستاذ حمود بن عبدالعزيز المزيني، حيث ذهب إلى أن مكشحة ليست روضة حطابة وأنها بلدة الفشخاء، وذلك في تعقيبه على مقالي (مُكَشَّحَة قديماً هي روضة حطّابة في سُدير)، المنشور في ورّاق الجزيرة، يوم الأحد 8-10-1433ه، ع14577، ص25، وحيث إنني أختلف مع المزيني في عدد مما أورده من معلومات أحببت أن أعقب عليه، دون استقصاء، وسوف يكون نقاشي معه في شقين، الأول فيما يتعلق بموضع مكشحة، والثاني في إساءته لعالم جليل: أولاً: أبدأ بنص كلام المؤرخ الشيخ إبراهيم بن عيسى (ت 1343ه)، الذي قلل من شأنه المزيني، حيث قال الشيخ ابن عيسى: (ذكر لي عثمان بن أحمد، أن مُكَشَّحَة هي المسماة الآن حطابة، وهو المستفيض عند أهل المجمعة)(1)، وهذه المعلومة نقلها الشيخ ابن عيسى عن الشيخ عثمان بن أحمد (ت 1319ه)، وهو من أهالي بلد المجمعة المتقدمين، وإمام لأحد مساجدها، ومن الثقات الأمناء، وابن أحمد نقل المعلومة بدوره من خلال الاستفاضة عند أهالي بلدته المجمعة، فهي ليست اجتهاداً من الشيخ ابن أحمد، وإنما هو إخبار منه للمتعارف عليه عند أهل المجمعة؛ المستفيض بينهم حينئذ، ولا شك أنهم أعرف بما يحيط ببلدهم من مواضع، ومثل هذا النص حري بأن يؤخذ به، وأن لا يرد بسبب توقع موهوم أو فهم خاطئ، فالمزيني لم يأت بدليل سوى أنه فهم من النصوص أن في محيط مكشحة نخيل وقصور بحسب فهمه، وبالتالي خلص أنه لا يمكن لمكان ينطبق عليه ذلك سوى الفشخاء، ضارباً بالاستفاضة عند أهل المجمعة عرض الحائط؛ بمقابل فهم موهوم للنصوص. ولا أخال الشيخ عبدالله بن خميس، الذي استشهد المزيني بكلامه، لو وقف على نص الشيخ ابن عيسى إلا معتمداً عليه، كونه ينقل استفاضة أهالي المجمعة المتقدمين، كيف لا وهو عنده ثقة؛ نقل عنه العديد من النصوص المتعلقة بالتاريخ وغيره؛ في معجمه عن اليمامة. بل إن النصوص التي ذَكرت مكشحة، فيها إشارات لا تنطبق على الفشخاء؛ وإنما على حطابة، فمثلاً بيت زياد بن منقذ الذي يقول فيه: يا ليت شعري عن جنبي مُكَشَّحَةٍ وحيثُ يُبنى من الحنّاءة الأطمُ أشار إلى أن لمكشحة جنبين، وهذا يخالف ما قاله المزيني عن مكان الفشخاء من أنه: (متسع ما بين الوادي وبين المرتفعات المطلة عليه من الجنوب). فالمتسع ليس له جنبان؟!! بينما كلام ابن منقذ منطبق على روضة حطابة، حيث لها جنبان تحدهما الهضاب والجبال من الشرق والغرب. والحِنَّاءة في شعر ابن منقذ: أرض، هكذا قال الشارح المرزوقي (ت 421ه)(2)، وقال ياقوت الحموي (ت 626ه): الجصّ(3). ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون أرضاً يستخرج منها الجص. فربما كان قرب مكشحة في السابق مكان لاستخراجه، والجص هو الذي تبنى به الأطم (الحصون)، وهذا يعني أن الجص ينقل من الحِنَّاءة إلى عدة أماكن لبناء الحصون. فإذن ليس في البيت دليل على أن في مكشحة حصوناً، كما فهم المزيني، وإنما يستفاد من أرض تسمى الحناءة لاستخراج بعض مواد البناء. وأما قول محمد بن إدريس الحفصي، الذي عاش في القرن الثالث الهجري، عن مُكَشَّحَة: (هو نخل في جزع الوادي قريباً من أشي)(4)، واستنكار المزيني في أن حطابة ليس فيها اليوم نخل ولا آبار، وبالتالي لا يمكن أن تكون هي مكشحة، فلم أر ما يستدعي ذلك، فما الذي يمنع من أن مكشحة (حطابة) كان ينبت فيها شجر النخل في ذلك الوقت الذي أدركه البلدانيون القدامى؟ فالمزيني قاس وضع حطابة قبل ما يزيد على ألف عام، بما هي عليه اليوم!! لقد اندثرت خلال تلك الفترة الزمنية بلدان بل ومدن، ولم يعد لها أي أثر ظاهر، وجهل مكانها تماماً، فكيف يريد المزيني أن تبقى جذوع النخل في مكشحة (حطابة) من ذلك العصر إلى اليوم؟!! وقد جاء في الوثيقة التي نشر المزيني مصورتها ما يدل على بقاء الماء في مكشحة (حطابة) حتى في فصل الصيف الحار، حيث ورد فيها ما نصه: (مقظوب لك ماءها في أيام القيض)، فمع هذا لا يمنع وجود نخيل فيها عاشت قديماً على مثل هذه المياه، وأنها في زمن الحفصي أكثر غزارة وبقاءً، كما لا يتصور أن يكون النخل الذي فيها كثيفاً، إنما قد يكون نخلاً متفرقاً مثل الذي يوجد على ضفاف بعض الأودية. وأستغرب من المزيني كيف يسمي مكشحة قرية؟!! حيث لا يوجد في نص من نصوص المتقدمين ما يدل على ذلك، سوى فهمه الموهوم من وجود النخل فيها. فالنصوص أشارت إلى أن مكشحة موضع باليمامة، وكلمة (موضع) يختلف عن القول بأنها بلد!! ولو كانت كذلك لنصوا عليها بأنها بلد، كما هو حالهم في بقية البلدان. فكونها موضعاً ينطبق أكثر على روضة حطابة، بينما قد لا ينطبق على الفشخاء، إذ لا يمكن أن توصف بأنها موضع وإنما بلد. والأرجح أن اسم بلدة الفشخاء قديماً هو (القلعة)، حيث قال الحسن الأصفهاني (ت 310ه تقريباً): (ثم وادي الكلب وادٍ فيه ماء للتيم وقَلْتٌ آخر وهو لهم أيضاً. ثم القلعة. ثم أشي، وهو وادٍ للأحمال من بلعدوية)(5)، وقد ذهب إلى ذلك أيضاً أحد باحثي المجمعة، الأستاذ عبدالعزيز الحقيل، حيث قال: (حددها الأصفهاني بأنها ما بين وادي الكلب وما بين وشي في وادي المشقر)، ثم قال الحقيل أيضاً: (أعتقد أن الفشخاء هي اسم البلدة التي ذكرها صاحب كتاب بلاد العرب باسم القلعة)(6). بقيت الإشارة إلى أن نص الأصفهاني يدل على شيء آخر مهم، وهو أن خط السير في وادي المشقر فيما بين حرمة وأشي، لا يوجد فيه موضع اسمه مكشحة، كما ظن الشيخ ابن خميس وجزم المزيني، وإلا لذكره الأصفهاني لأنه معاصر للحفصي. وذكر المزيني أن روضة حطابة تخص أهالي المجمعة فقط، دون غيرهم ممن لهم الحق في زراعتها البعلية، واستشهد على ذلك بوثيقة نشرها في مقاله، والمتأمل فيها يجد أنها مصالحة تتعلق بالرعي بين بعض الحاضرة وأحد البادية، وليست حكماً قضائياً، وليس لها تعلق بالزروع البعلية. وقد أخبرني أحد الإخوة عن وجود وثائق لدى أهالي بلدة حرمة، تثبت أنهم المدافعون عما يحصل في وادي الكلبي من تعديات، ولا يخفى أن فرعين من فروعه الثلاثة ينحدران من روضة حطابة. كما أن رواية كبار السن الموجودين في القرى التي ذكرتها تفيد أنهم مارسوا زراعة البعول في روضة حطابة مع آبائهم وأهاليهم، وهذا أمر مشتهر، ويمكن سؤالهم مباشرة عن ذلك، وقد فاتني في مقالي السابق أن أذكر أهالي بلدة أشي ضمن من لهم الأحقية في الزراعة البعلية في حطابة (مكشحة). ثانياً: أما لمز المزيني للشيخ المؤرخ ابن عيسى بقوله: (ابن عيسى في الكثير من معلوماته التي يستقيها من الآخرين كحاطب ليل، كونه يأخذ كل ما قيل له على أنه أمر مسلم). وانتبه أخي القارئ إلى كلمة (الكثير). أقول: لو أتى المؤرخ ابن عيسى بمعلومة أن حطابة هي مكشحة دون أن يعزوها لأحد، لكان قوله حرياً بالأخذ، لأنه قامة رفيعة في تلك العلوم، فما بالك وقد أسندها إلى ثقة من أهل المنطقة، ينقل الاستفاضة عن أهل بلده. وأما محاولة المزيني في دعم وجهة نظره الموهومة بالحط من الشيخ ابن عيسى؛ فهو غير مقبول علمياً، خاصة وأن الشيخ المؤرخ النسابة ابن عيسى ثقة ثبت أمين. وما ضربه المزيني من أمثلة على أخطاء الشيخ ابن عيسى، لا تمثل سوى وجهة نظره الخاصة، في مقابل قول مؤرخ كبير ثقة مثل الشيخ ابن عيسى!! وعلى الرغم من اعترافي باحتمالية ورود الخطأ على الشيخ ابن عيسى، إلا أن معظم الأمثلة التي أوردها المزيني على أخطائه، كان من وجهة نظري، الصواب فيها مع الشيخ ابن عيسى؛ وليس مع المزيني. وفي النص عن حطابة خاصة فإن الشيخ ابن عيسى أدى المعلومة بأمانة تامة، حيث عزاها إلى من أخبره بها من أهل البلد؛ فبرئت ذمته بذلك، ولو افترضنا أن هذه المعلومة خلاف الصواب؛ فليس على الشيخ ابن عيسى ملام في ذلك، كونه عزاها لقائلها. والمؤرخ ابن عيسى موثوق في نقوله وكتاباته، ولا زالت كتبه ووثائقه ومدوناته مورداً عذباً للباحثين، وأنقل هنا بعضاً من ثناء العلماء على المؤرخ ابن عيسى لتتضح للقارئ مكانته وعلو شأنه في علم التاريخ والأنساب: فقد قال عنه علامة الكويت وقاضيها الشيخ عبدالله بن خلف الدّحيّان (ت 1349ه): (كان عالماً عاملاً محققاً مدقّقاً، مُبَرّزاً في علم التاريخ والأنساب، كثير التقييد للفوائد، وقد كتب من ذلك الكثير النافع بخطه الحسن الممتاز الضبط)(7). وقال عنه الشيخ محمد بن عبدالله البليهد (ت 1377ه): (رجل علامة في جميع الفنون، وبالأخص في تاريخ العرب وأنسابهم وديارهم وتنقلاتهم)(8). وقال الشيخ العلامة محمد بن عبدالعزيز المانع (ت 1385ه): (العلامة المؤرخ المحقق الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى)(9). وقال عنه الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل عثيمين (ت 1410ه): (المؤرخ، الأديب، الشاعر، الفرضي، الحيسوب، الفقيه... كان أديباً شاعراً، مؤرخاً كاتباً، حاسباً... اشتهر اسمه وبعد صيته، واشتهر في معرفة التاريخ والأنساب، وله تآليف في ذلك... وبالجملة فإنه من أدباء نجد ومؤرخيها)(10). وقال عنه الشيخ حمد الجاسر (ت 1421ه): (عالم عُني عناية كبيرة بتدوين تاريخ نجد)، وقال أيضاً: (يعتبر الشيخ ابن عيسى المؤرخ الثاني لنجد، بعد ابن بشر، فبتأريخهما يصبح تاريخ هذه البلاد متصل الحلقات)(11). وقال عنه المؤرخ الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسّام (ت 1423ه): (عني العناية التامة بتاريخ نجد وأنساب أهلها وأخبارهم وأخبار بلدانهم، مما جعله مرجعاً في ذلك لأكابر العلماء، فصاروا يراسلونه ويسألونه عما أشكل عليهم في ذلك)، وقال أيضاً: (لا أعرف أحداً من علماء نجد خدم تاريخ نجد مثله، وتعب في تقييد أخباره وتسجيل حوادثه وضبط أنسابه، حتى عدّ - بلا مراء - مرجعاً فيه)(12). أكتفي بهذا القدر، ولو كان لدينا في نجد مؤرخ مثل ابن عيسى في كل قرن من القرون الماضية، لما كانت تلك المعاناة التي يعيشها الباحثون اليوم في تقصي التاريخ النجدي. والحمد لله رب العالمين. **** الهوامش: (1) بخط المؤرخ الشيخ إبراهيم بن عيسى، ضمن مجموع. (2) (شرح ديوان الحماسة)، لأحمد بن محمد المرزوقي، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411ه، ج2، ص1400. (3) (معجم البلدان)، لياقوت الحموي، دار صادر، بيروت، 1376ه 1957م، ج1، ص194. (4) (معجم البلدان)، للحموي، ج5، ص181. (5) (بلاد العرب)، للحسن بن عبدالله الأصفهاني، تحقيق حمد الجاسر، دار اليمامة، الرّياض، ط1، 1388ه، ص260. (6) (المجمعة وحرمة من العصر الجاهلي إلى العصر الحاضر)، لعبدالعزيز بن إبراهيم الحقيل، ط1، 1422ه 2001م، ص183، و188. (7) (علامة الكويت الشيخ عبدالله الخلف الدحيان)، لمحمد بن ناصر العجمي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط1، 1415ه 1994م، ص90. (8) (صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار)، لمحمد بن عبدالله بن بليهد، ط3، 1399ه، ج2، ص215. (9) من تقديم ابن مانع لنبذة الشيخ ابن عيسى في الأنساب، المنشورة ملحقة في آخر (الكتاب المنتخب في ذكر قبائل العرب)، لعبدالرحمن بن حمد المغيري، مطبعة المدني، مصر، 1382ه، ص165. (10) (تسهيل السابلة لمريد معرفة الحنابلة)، لصالح بن عبدالعزيز آل عثيمين، تحقيق بكر بن عبدالله أبو زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1422ه 2001م، ج3، ص1777. (11) (تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد)، لإبراهيم بن صالح بن عيسى، دار اليمامة، الرياض، ط1، 1386ه 1966م، مقدمة المحقق ص17، و21. (12) (علماء نجد خلال ثمانية قرون)، لعبدالله بن عبدالرحمن البسّام، دار العاصمة، الرياض، ط2، 1419ه، ج1، ص322، و326. عبدالله بن بسّام البسيمي - الوشم - بلدة أشيقر