تناولت في الجزء الأول من هذه المقالة صورًا من الاندفاع المحموم للحصول على شهادة الدكتوراه بأية طريقة كانت؛ وفي أي تخصص كان، ومن أية جامعة في الكون، سواء كانت في الأرض أو في القمر، وسواء كانت في أقصى الشرق أو في أقصى الغرب؛ فثمة دوافع لدى بعضهم تحتم عليه أن يكمل وجاهته بورقة كرتونية مزخرفة مزركشة، محشوة بالأختام وممهورة بالتواقيع، فبعضهم يرى أنه نال من النجاحات في عمله أو تجارته ما أسعده وأرضاه فلم لا يكمل سعادته بنيل شهادة لن تكلفه إلا اتصالاً ومتابعة وقراءة ما يكتب له إن لزم الأمر، أما إذا كان من الرعاع، أو من الشبان الناشئين المتعجلين فأمره أيضاً ليس أكثر عنتاً ولا مشقة من سابقه المليء، فلدى الجامعة من الباحثين من يقوم بمهمة اختيار الموضوع، والكتابة فيه، ومناقشته عن بعد من الدكاترة المتعاونين مع الجامعة الوهمية في كثير من بلدان العالم، والذين ينالون نصيباً يسيراً من كعكة كل شهادة تمنحها الجامعة التي لا وجود لها إلا في مواقع النت أو في خيال مندوبيها المنتشرين في معظم مدن العالم! أما بيع وشراء شهادات الجامعات الكبيرة الأصيلة المعترف بها؛ فأمر يسير أيضاً لمن يقدم على قبول مغامرة الشهادة المزورة ولا يخشى انكشافها، وهو أمر معلوم لدى كثيرين، وقد حدثت وقائع في كل بلدان العالم تثبت إقدام عدد من ضعفاء النفوس على الاتجار بالتزوير وعلى قبول الشهادات المزورة، كما هو الحال في إمكانية حدوث تزوير أية وثيقة تخطر على البال من بطاقة الهوية إلى ختم أية دائرة حكومية أو توقيع أية شخصية نافذة مؤثرة! وإذا كنت قد بسطت القول في لهاث الراكضين خلف الدال من الجامعات الوهمية في الخارج؛ فإنني أجد أن من الملح أيضاً أن أشير بلا توسع ولا تلميح إلى شخصيات معينة إلى من ينالون شهادات دكتوراه من الداخل بلا عناء قليل أو كثير، فالراغب في أن يزخرف اسمه بهذه الشهادة المزيفة إذا كان يشعر بنقص في وجاهته أو يزعم أن الشهادة سترقيه في عمله أو ترشحه لمنصب في الدولة؛ فإنه يقدم طلباً برغبته في الدراسات العليا للماجستير أو الدكتوراه في أية كلية من كليات جامعاتنا، وبعد أن يقبل وفق الأنظمة المعروفة التي تقسم الدراسات العليا إلى نظامين: رئيسي يطبق الدراسة للماجستير أو الدكتوراه بمعدل جيد جداً وما فوق وبسنة أو سنتين دراسيتين وبحث كبير، أو مواز يقبل معدلاً جيداً ويدرس الراغب سنتين ويقدم بحثاً صغيراً مكملاً، ففي حالةلبحوث الكبيرة يلجأ بعض ضعاف النفوس من الوصوليين الانتهازيين إلى أن يستأجر من يكتب له بحثه بمبلغ معلوم، وعليه أن يوفر له المصادر والمراجع، وبعد مضي أشهر قد لا تطول حسب همة وجدية المستأجر يتم بحث الدكتوراه على خير وجه، وليس على الطالب المزور إلا قراءته واستذكاره ليلة المناقشة! وقد حدثني أحد هؤلاء الانتهازيين الوصوليين من المدعين بعظمة لسانه عن تذاكيه وفهلوته وغبائي الذي أبقاني عشر سنين أبحث في الماجستير والدكتوراه؛ فقال لي: أعطيت الموضوع دكتوراً عربياً واتفقت معه على إنجازه بمبلغ معين واستأجرت له شقة، وسائقي يذهب له بوجبتين في اليوم وجميع ما يطلبه من مال لشراء المصادر والمراجع بين يديه، وقد وفى وكفى، وربما أناقش قبلك! وهو الآن مسؤول كبير في إحدى الوزارات! وحدثني آخر قال: قدمت البارحة من القاهرة محملاً بشهادة الدكتوراه! قلت له: مبروك يا فلان، متى سجلت ودرست وبحثت وناقشت؟! قال: ثلاثة أشهر بعد إنهاء بعض الساعات الدراسية كانت كافية لأن ينجز البحث أستاذ كبير بمبلغ معين وتوفير ما يلزمه، وكنت بجانبه أو هو بجانبي في شقة استأجرتها لهذا الغرض، وتم المشروع على خير وجه ونلت الشهادة بامتياز مع مرتبة الشرف! مثالان لشهادتي عار يحطان من قيمة البحث العلمي، ويكشفان كم دخل الغش والتدليس وفساد الضمائر على ثروة الأمة في كل مجالات العلم مما يضر عاجلاً كالطب على الأخص، أو آجلاً مما يمس مستقبل الوطن والأجيال القادمة. وأود أن أقدم بعض الحلول التي قد تحد من استشراء هذه الظاهرة السيئة أو تساعد على انكشاف المدعين المزيفين: في الداخل: 1- إيقاف ما يسمى بالتعليم الموازي؛ فهو سبة في تاريخ التعليم العالي، وسقطة كبيرة في مستقبل البحث العلمي؛ فكيف يجيز من سمح بهذا النظام شراء الشهادات العلمية لغير الحاصلين على مؤهلات عالية تؤهلهم للدراسات العليا؟! التعليم الموازي في حقيقته تكسب رخيص من الجامعات السعودية ببيع شهادات الماجستير والدكتوراه لمن لا يستطيع الحصول عليها بكفاءته ومقدرته العلمية وتفوقه! هل نتاجر بعقول أبنائنا ونضع الشهادات العالية في المزاد، من يدفع ينل ماجستيراً أو دكتوراه؟! وهل وصلنا إلى مرحلة أن نستجدي المال ممن يستجدون الشهادات؟! وأي مستقبل علمي ينتظرنا إذا كان الباحث من خريجي التعليم الموازي ضعيفاً بتقدير جيد أو مقبول ولا يفرق بين الهمزة على الألف أو على نبرة أو في السطر؟! 2- التأكد من قدرة الباحث على الإلمام بقضايا بحثه بمناقشته في التفاصيل الدقيقة جداً التي تكشف مدى غوصه العميق في البحث أو سطحيته الفجة التي تبين عواره وتدليسه وغشه. أما في الخارج: 1- تجديد قوائم الجامعات وكليات البحث العلمي الوهمية أو غير الملتزمة بشروط الدرس الجامعي الصارمة، وتزويد الملحقين الثقافيين بها باستمرار، والحديث عنها بصفة غير منقطعة في وسائل الإعلام. 2- مطالبة الباحث بترجمة بحثه، وعدم الاعتراف له بشهادته إلا بعد ترجمة بحثه إلى اللغة العربية؛ لإثبات اتصاله العميق بموضوعه، ولخدمة المجتمع بما كتب إن كان ذا فائدة ترجى. 3- الحد من الموافقة على طلبات الدراسات العليا من غير المنضوين في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية؛ لأن الباحث المدعي الذي يحصل على شهادة دكتوراه من جامعة وهمية لا يطمح إلى أن يكون أستاذاً في الجامعة؛ لعدم قدرته على إلقاء محاضرات في تخصص لم يتعمق فيه وربما لا يدري عنه شيئاً؛ فغايته الوجاهة أو الترقية في إدارته! 4- عدم قبول الشهادات من الجامعات التي لم يعترف بها للترقيات في الوظائف الحكومية، بمعنى ألا يقتصر عدم قبولها على وزارة التعليم العالي فقط؛ بل على الجهات الأخرى الحكومية وغير الحكومية بتعميم أسماء الجامعات الوهمية عليها. 5- معاقبة أي عضو هيئة تدريس في الجامعات السعودية أو متعاقد معها يثبت عليه التعاون مع الجامعات الوهمية أو غير المعترف بها؛ سواء كان بتحكيم بحوث أو بمناقشتها، أو بالإشراف على الرسائل عن عن بعد. [email protected] mALowein@