تقول الحفريات الجديدة ومن بعض الكتب الممزقة والمحترقة المصفرة اللون التي وجدت تحت أطنان من الأنقاض المنصهرة إن أجدادنا كانوا يتصلون بعضهم ببعض في أراض واسعة جداً عبر استخدام طرق لم نعرف حتى الآن كيفية عملها..!! وأنهم اعتمدوا على ما كان يسمونه بالتكنولوجيا للتواصل فيما بينهم، ولم يتم العثور على ما يسند أقوالهم. حدقت طويلاً في الفراغ وتساءلت: أين بإمكانها أن تكون قاراتهم السبع؟ وكلنا نجتمع على بقعة أرضية لا تتجاوز بضعة آلاف من الأميال لا نعرف سواها؟.. وليس من وسيلة نجازف فيها لعبور المحيطات نحو مجهول قد لا نجد فيه أحداً؟ عكفت طوال الليل على كتابة قصيدة تتكلم عن بشر كانوا يسكنون بنايات تنطح سطوحها الغمام.. لم نعثر على أثر لها. لكل لوحة رسام ولكل رسام منظوره الخاص فتحت الدرج. كان ممتلئاً حد الاختناق بالصور الفوتوغرافية اخترت واحدة منهن وأطلت النظر إليها المرأة التي تغفو على بعد عدة أمتار لا تمت لهذه المرأة الساحرة بصلة تحرك جسدها الضخم وكأنه قد حدث ما أفكر به فأظهر احتجاجه بتقلبها القلق - لم لم تنم حتى الآن..؟ جاء صوتها راعداً..!! - عودي إلى النوم هذا لا يعنيك.. قلت بكراهية ينضح بها صوتي.. تمنيت لو أن باستطاعتي أن أعيد سنيني الملتصقة بها أو أن أستبدلها وينتهي الأمر..!! شرع ابني الرضيع بالبكاء فألقمته دون أن تفتح عينيها وركضت نحو الخلاء ألقي كل عشائي الذي أعدته بيديها البدينتين. لكل حصاد أوان... إن فات لم يعد للموسم معنى ما زلت في ألمانيا الباب الموارب بدا وكأنه يدعوني للدخول وتراقصت أمام عيني جذوة اللحظة الأخيرة وهي تهفت بإذعان متمسكة دون جدوى بقطاف ما نضج من الدهر وما شاخ منه. سمعت الصوت من جديد متأهباً للحظة غزلتها أحلام غربة تتكئ على ما مضى ولا تعبأ أين ستكون ركائز اللحظة القادمة. مطر آذار يبللني ويحوط جسدي بقشعريرة برد وارتباك، ترددت أكثر... هل أطرق الباب؟ أي نوع من الكلمات تلك التي لا يعتريها الخجل وأنا أقف أمامها حسيراً مرتعشاً لا تطيق قدماي النهوض بجسدي المثقل ورأسي المعلب بصفائح ذكريات أكلها الصدأ؟ الهدوء يعم المكان لا صراخ الصبية الصغار ولا صوتها موبخاً إياهم، كدت أعود مؤمناً أنني أستند إلى جدار غريب وأحاول التمادي إذ أطرق بابه مرّ شاب نظر إليّ بإمعان وقال: - أمر؟ خدمة؟ - لا.. شكراً أنا فقط ألتقط أنفاسي اجتاحت نظرات الشاب وجهي وكأنها تعريه من قناع أبذل جهداً كبيراً لأحافظ عليه، خشيت أن يكرر سؤاله إلا أنه دخل مطأطئ الرأس مجتازاً الباب المجاور. ومكثت في الشارع هامساً، مرتجفاً، مبللاً بمطر آذار اللذيذ.. تصاعد توتري.. ترددت أكثر.. هل أطرق الباب؟.. ماذا سأقول؟، كيف أبرر اختفائي لأكثر من ثلاثة عشر عاماً؟.. هل أنا عند باب بيتها؟، لم كل هذا الهدوء؟..، أين الأطفال الصغار.. وصخبهم.. ولعبهم..،؟. آه تذكرت.. لا بد أنهم أصبحوا الآن رجالاً، ربما تزوجوا.. وغادر وها هي وحيدة.. ربما! ربما أنا الذي أصبحت وحيداً، رغم أن المكان لم يتغير، كأن الحرب لم تقع؟. من أنا لأطرق الباب؟، أو لأتساءل حتى..؟ (كم عاماً في الصحراء أمضيتها دون أن ترسل رسالة أو إشارة تدل على وجودك حياً..؟)، أي كلام يوازي انتظارها لك؟، وهل حقا إنها ما زالت تنتظر؟؟؟. بضع نقرات على الباب.. وينتهي هذا العذاب المضني.. بضع نقرات.. هيا افعلها!! أربعة رجال أشداء ظهروا فجأة من خلف الباب.. وابتعد وجهها وصوتها المرافق لهم حتى كأني لم أرها ولم أسمعها قط.. وأخذ الرجال يرطنون بلغة.. لا أعرفها.. يقتربون.. وأنا أتحرك للخلف. ضوية!.. ناديتها مستنجداً جاء جوابها سريعاً.. ولكن أية لغة هذه التي تكلمت بها؟ إني لا أفقه حرفاً.. أشقاؤها بدو صغار إنهم يرطنون أيضاَ يا للهول..أين أنا؟؟!!. كانت تهز جسدي بعنف وترشق الماء على وجهي.. وقالت بلغة ألمانية واضحة بالنسبة لي: هل عاودتك كوابيس العراق مجدداً؟.. لقد أيقظت الطفلين بصراخك!!