يبدو أن الاقتصاد الأمريكي يتناول الدواء الخطأ، فبعد التشخيص الخاطئ لعلته، وصف له صناع القرار السياسي دواءً تجريبياً لم يختبر بعد فضلاً عن آثاره الجانبية الخطيرة المحتملة.. والمريض الحقيقي هنا هو المستهلك الأمريكي المستهلك الأكبر في العالم على الإطلاق، ولكنه الآن يمر بأسوأ نوبة من الإحجام عن الاستهلاك منذ أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن الماضي. والواقع أن البيانات الحديثة عن الإنفاق الاستهلاكي في الولاياتالمتحدة كانت مروعة. فقد تم للتو تغيير معدل الإنفاق الاستهلاكي الشخصي (المعدل وفقاً للتضخم في الولاياتالمتحدة) إلى 1.5% فقط في الربع الثاني من عام 2012، ويبدو أنه على الطريق نحو زيادة هزيلة مشابهة في الربع الثالث. والأسوأ من ذلك هو أن هذه الأرقام هي الأخيرة فقط فيما أصبح اليوم اتجاهاً دام أربعة أعوام ونصف العام. فمنذ الربع الأول من عام 2008 إلى الربع الثاني من عام 2012، كان متوسط نمو الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي السنوي 0.7% فقط، وهو أمر غير عادي بالمقارنة باتجاه ما قبل الأزمة الذي بلغ 3.6% طيلة فترة الأعوام العشرة التي انتهت في عام 2007. ويتلخص المرض في ركود الموازنات العامة المطول والذي تسبب في تحويل جيل من المستهلكين الأمريكيين إلى موتى أحياء. هل تذكرون اليابان وشركاتها الميتة الحية في تسعينيات القرن الماضي؟.. فكما كتبت تلك الشركات سيناريو العقد الأول من عقود اليابان الضائعة، فإن نظيراتها الآن تكتب نفس السيناريو لاقتصاد الولاياتالمتحدة. لقد استمر الاستهلاك المفرط طيلة عقد كامل من الزمان بفضل فقاعتين عقارية وائتمانية.. ومنذ انهيار الفقاعتين في عام 2007، أصبحت الأسر الأمريكية حريصة على تركيز كل اهتمامها على إصلاح الضرر. وهذا يعني سداد الديون وإعادة بناء المدخرات، الأمر الذي أغرق الطلب الاستهلاكي في مستنقع من الضعف المطول. وفوق كل هذا، جاء العلاج الموصوف لهذا الداء ليعمل على تفاقم المشكلة. ففي غمرة من الإنكار يتعامل بنك الاحتياطي الفيدرالي مع المرض وكأنه مشكلة دورية، فينشر القوة الكاملة للمواءمة النقدية للتعويض عما يتخيله نقصاً مؤقتاً في الطلب الكلي. والواقع أن المنطق الملتف وراء هذه الإستراتيجية مزعج للغاية، ليس فقط بالنسبة للولايات المتحدة، بل وأيضاً بالنسبة للاقتصاد العالمي.. فلا شيء يمكن اعتباره دورياً في توابع الصدمة الدائمة من ركود الموازنة العامة والذي كان واضحاً لفترة تقرب من الخمسة أعوام الآن، بل إن إصلاح الموازنة العامة لم يبدأ إلا بالكاد بالنسبة للأسر الأمريكية.. فقد توقف معدل الادخار الشخصي عند 3.7% فقط في أغسطس - آب 2012 ليرتفع بذلك عن أدنى مستوياته في عام 2005 (1.5%)، ولكنه لا يتجاوز نصف المتوسط المسجل على مدى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين (7.5%). وعلاوة على ذلك، لا تزال أعباء الديون بالغة الضخامة. فقد توقف المستوى الإجمالي لمديونية الأسر الأمريكية عند معدل 113% من الدخل الشخصي القابل للتصرف في منتصف عام 2012 ليهبط بذلك بمقدار 21 نقطة مئوية عن الذروة التي بلغها قبل الأزمة (134% في عام 2007)، ولكنه لا يزال أعلى كثيراً من المعدل المعتاد أثناء الفترة 1970-1999 (نحو 75%). وبعبارة أخرى، فإن الطريق لا يزال طويلاً أمام الأمريكيين على مسار إصلاح الموازنة، وهو ما لا يشير إلى نقص مؤقت أو دوري في الطلب الاستهلاكي. فضلاً عن ذلك فإن النهج الذي تبناه بنك الاحتياطي الفيدرالي أصبح عُرضة للخطر الشديد بفعل تدني سعر الفائدة إلى الصفر.. فمع عجز بنك الاحتياطي الفيدرالي عن خفض أسعار الفائدة إلى مستويات أدنى، لم يعد أمامه سوى التحول باتجاه البعد الكمي للدورة الائتمانية، حقن شرايين المستهلكين الموتى الأحياء بجرعات هائلة من السيولة. ولترشيد فعالية هذا النهج، لجأ بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى إعادة كتابة سيناريو آلية انتقال السياسة النقدية التقديرية. وخلافاً للأيام الخوالي، عندما كان خفض سعر الائتمان كفيلاً بتعزيز الاقتراض، فإن «التيسير الكمي» يعمل من خلال تحفيز أسواق الأصول والائتمان. ثم بعد ذلك تستخدم تأثيرات الثروة المتولدة عن الأسواق المالية الضحلة لتنشيط «الغرائز الحيوانية» التي كانت في سبات طويل لحمل المستهلكين على الإنفاق من جديد، بصرف النظر عن التوترات المتراكمة المرتبطة بالموازنة العامة. وهناك المزيد: فوفقاً لهذه الحجة، سوف تعود الشركات إلى توظيف العمالة من جديد بمجرد علاج مشكلة الطلب، ثم وبمنتهى السرعة، يظهر علاج غير تقليدي يلبي بصورة سحرية التفويض الذي طال إهماله لبنك الاحتياطي الفيدرالي بمحاربة البطالة. ولكن المناورة السياسية التي أدارها بنك الاحتياطي الفيدرالي دفعت بالولاياتالمتحدة إلى الطريق الخطأ. والواقع أن بنك الاحتياطي الفيدرالي ضاعف جهوده في تفعيل النهج الرامي إلى إعادة خلق جنون النموذج الاستهلاكي المعتمد كلياً على الأصول والائتمان، أو على وجه التحديد الخطأ الذي دفع الاقتصاد الأمريكي نحو الهاوية أثناء الفترة 2003-2006. وتماماً كما فشلت جولتان سابقتان من التيسير الكمي في التعجيل بإصلاح موازنات الأسر الأمريكية، فهناك قلة من الأسباب التي تدعونا إلى الاعتقاد بأن «جولة ثالثة من التيسير الكمي» قد تلبي الغرض منها.. إن التيسير الكمي أداة فظة، على أفضل تقدير، وهو يعمل عبر قنوات ملتوية للغاية، وهو بالتالي مثير للشكوك؛ بل إنه لا يجدي على الإطلاق تقريباً في تخفيف المشكلة المزدوجة المتمثلة في الإفراط في الاستدانة وعدم كفاية المدخرات. أما السياسات التي تهدف بشكل مباشر إلى الإعفاء من الديون وتحسين حوافز الادخار -المثيرة للجدال بكل تأكيد- فإنها كفيلة على الأقل بمعالجة مشاكل الموازنة لدى المستهلكين الموتى الأحياء. وعلاوة على ذلك فإن الآثار الجانبية المترتبة على التيسير الكمي ضخمة للغاية.. ويعرب كثيرون عن قلقهم من ارتفاع كبير في مستويات التضخم، إلا أن هذا ليس على قائمة المخاطر في اعتقادي، نظراً للركود الهائل الذي يعاني منه الاقتصاد العالمي، واحتمالات استمرار الركود لسنوات. والواقع أن الأمر الأكثر إثارة للقلق يتمثل في استعداد البنوك المركزية الكبرى ليس بنك الاحتياطي الفيدرالي فحسب، بل وأيضاً البنك المركزي الأوروبي، وبنك إنجلترا، وبنك اليابان، لضخ كميات هائلة من السيولة الفائضة إلى أسواق الأصول، وهي التجاوزات التي لا يمكن استيعابها بواسطة الاقتصادات الحقيقية الراكدة. وهذا من شأنه أن يضع البنوك المركزية في الموقف المزعزع للاستقرار المتمثل في التنازل عن السيطرة على الأسواق المالية.. وفي عالم يعاني من عدم الاستقرار المالي المتأصل، فإن هذا قد يكون التطور الأكثر تدميراً على الإطلاق. وتعرب بلدان العالم النامي عن غضبها الشديد إزاء التكتيكات المتهورة التي تتبناها البنوك المركزية الكبرى. ويخشى زعماء الاقتصادات الناشئة امتداد التأثيرات الجانبية إلى أسواق السلع الأساسية فضلاً عن تشوهات أسعار الصرف وتدفقات رأس المال التي قد تلحق الضرر بتركيز هذه البلدان على الاستقرار المالي. وفي حين يصعب تتبع التدفقات عبر الحدود والتي تتغذى على التيسير الكمي في ما يطلق عليه العالم المتقدم، فإن هذه المخاوف بعيدة كل البعد عن كونها بلا أساس.. ذلك أن ضخ السيولة إلى العالم المتقدم حيث أسعار الفائدة عند مستوى الصفر من شأنه أن يدفع المستثمرين المتعطشين إلى الربح إلى البحث عن فرص النمو في أماكن أخرى. مع انتقال الاقتصاد العالمي من أزمة إلى أخرى في الأعوام الأخيرة، أصبح العلاج جزءاً من المرض ذاته. ففي عصر أسعار الفائدة المتدنية إلى الصفر والتيسير الكمي، أصبحت سياسة الاقتصاد الكلي مشوشة إلى حد كبير بفعل الواقع المرير في مرحلة ما بعد الأزمة.. والآن تستخدم أدوية لم تختبر بعد لعلاج المرض الخطأ، ويظل المريض مهملاً بعد أن أصبح مرضه مزمنا. (*) ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس بجامعة ييل، وكان رئيساً لشركة مورجان ستانلي في آسيا، وهو مؤلف كتاب «آسيا التالية».