يظهر أننا من خلال تجاربنا لنصف قرن قد تعلمنا فنون وضع إستراتيجيات بيع النفط، كما تعلمنا أهمية وجود الفوائض النقدية في عزل تقلبات أسعار النفط عن استقلاليتنا في وضع الإستراتيجيات بشكل عام، ومنها إستراتيجيات بيع النفط. والذي لم يظهر لي كمتابع خارجي لا يعلم بواطن الأمور، أننا لم نتعلم بعد فنون إدارة الاستغلال الأمثل للاحتياطيات النقدية. فسياسة المملكة في بيع البترول تهدف لخدمة المصلحة الوطنية في المقام الأول، أما دعوى المسئولية الدولية فقد جاءت تبعا لا أصلا. فاستغلال الأسعار المرتفعة اليوم في سوق مُحتكر من القلة، هو من أبسط قواعد تحقيق أقصى الأرباح لأي منتج. وأسعار البترول متذبذبة في المدى القصير، ويكفي شاهد على ذلك انهيارها في ظرف أسابيع من 150 دولارا إلى 30 دولارا مع بداية الأزمة المالية. وحسن سياسة النفط جعلنا نحقق أعلى الأرباح ببيع ما نستطيع بيعه في تلك الفترة، كما تحقق لنا الربح السياسي تحت مسمى المسئولية الدولية. وارتفاع أسعار البترول اليوم لا يعني استمرارها، بل إن السيناريو الأغلب -بالمعطيات التي بدأت تظهر- بأن أسعار النفط ستنخفض في قوتها الشرائية الحقيقة في المدى الزمني المتوسط -حدود عشر سنوات- وقد تنهار على المدى الزمني البعيد. فالعالم وإن كان يزداد طلبه على الطاقة إلا أنه أخذ في تسخير التكنولوجيا في حسن استغلاله للنفط، والأهم من ذلك أن النفط لن يستمر الخيار الأول للطاقة، فعصر الغاز قادم بقوة والذي سيحل محل النفط كما حل النفط محل الفحم. والغاز متوفر بعدة أشكال وفي كثير من مناطق العالم والأهم من ذلك كله أنه متوفر بكثرة في التُربة الأمريكية، ويظهر أنه سيكون محور الطفرة الاقتصادية القادمة لأمريكا. وعلى أي حال، فسواء أكان سيناريو هيمنة الغاز المستقبلية حقيقيا أو أنه مبالغ فيه، فإن صانع القرار في بيع البترول لا يمكنه أن يتجاهل استغلال فرصة ارتفاع الأسعار اليوم. وأما ما سيحمله المستقبل فهو إما حصول هيمنة الغاز، فتكون السعودية قد حصلت من الأرباح أعظم ما يمكن تحصيله اليوم. وإما بقاء هيمنة النفط فهو خير على خير. حتى ولو افترضنا صحة القول بأن تعاظم البيع اليوم يعني نقصان المخزونات، فالرد عليه إن هذا سينعكس بزيادة في الأسعار مقابل هذا الانخفاض. وأما عدم البيع اليوم بكميات أقل لا تسد حاجة السوق بشكل متوازن فهو سيُعجل بتطوير صناعة الغاز مما ينقص الفترة الذهبية لصناعة النفط. مما سبق يتبين أن سياسية السعودية في النفط سياسية حكيمة رائعة على المستوى الدولي والتجاري ولكن ماذا عن فوائض عوائد النفط التي هي ثمرة هذه السياسة الرائعة. يظهر لي أننا لم نتعلم من احتياطيات فوائض الطفرة الأولى إلا درسا واحد وهو أهمية وجود مخزونات احتياطية من الثروات (شبه الكاش) غير النفطية التي تُشكل جدارا واقيا يمتص الصدمات النفطية والاقتصادية والسياسية. فوضع فوائض عوائد النفط في سندات أجنبية حكومية سيحفظها من الضياع الاسمي لا الضياع الحقيقي بفعل التضخم وبسبب استنزافها باقتصاد نفطي غير معرفي. وأما الدعوى لاستغلال الفوائض في صناديق سيادية فهي سياسة قد تكون مناسبة للدول التي ليست بحاجة ماسة لفوائضها المالية إلى حد ما، وليست مناسبة لنا، وهذا ما سأتطرق إليه في مقال آخر عن الفرق بيننا وبينهم. إن الخطط الإستراتيجية الطموحة في تطوير اقتصاد المملكة بعيدا عن البترول ليصبح اقتصادا معرفيا ابتداء من البعثات مرورا بالجامعات وانتهاء بالمدن الصناعية، هي خطط رائعة ويجب الاستمرار فيها لا الاكتفاء بها فقط. فهي لا تحتاج إلى كل هذه الفوائض النقدية كما أنها تحتاج إلى عقود زمنية طويلة قد تصل إلى جيل أو أكثر حتى تحقق أهدافها الإستراتيجية المأمولة، بالإضافة إلى الأخطاء التجريبية المصاحبة لها، والتي ستكون مرتفعة الكلفة ماديا وزمنيا. ومن الدعاوى لاستغلال الفوائض: دعاوى شراء الشركات الأجنبية الناجحة. لكن العاقل يدرك أنه لا يوجد في العالم من يبيعك دجاجة تبيض ذهبا إلا إن كانت ستموت، كما أن الاستثمار في هذا لا يعود على البلاد بنهضة اقتصادية إنتاجية محلية معرفية فضلا عن عدم الهيمنة الوطنية عليها. لذا فإن فكرة إيجاد هذا الدجاج البياض ذهبا عندنا في بلادنا عن طريق تسخير جزء من فوائض عوائد النفط في ذلك هو أمر ممكن، وتجربة ناجحة مررنا بها ومرت وتمر بها دول آسيا. فأرامكو هي نوع من أنواع الدجاج الذي يبيض ذهبا. ومن هي أرامكو؟ أليست شركة نفط أجنبية (دجاجة كانت تبيض ذهبا في أمريكا) أتى بها المؤسس الأول بقدها وقديدها وقايضها بالبترول مقابل إيجاد الدجاجة الذهبية السعودية في بلادنا؟ فلم لا نكرر التجربة بالمقايضة ببعض الفوائض النقدية لإقناع الشركات الصناعية العالمية المتقدمة لتأتي بقدها وقديدها إلى المملكة بشرط أن تكون على غرار أرامكو فتؤسس لنا الاقتصاد المعرفي، كما هي الحال في جامعة الملك عبدالله برابغ (إذا كانت إستراتيجيتها كذلك)، فالمسكوت عنه أن الوضع أيام المؤسس الأول واليوم لم يتغير. فالمؤسس الأول قايض أرامكو بالبترول واليوم نقايض الشركات الصناعية المتقدمة بفوائض عوائد البترول، وأما المجتمع الاقتصادي والعلمي السعودي وإن كان أحسن حالا إلا أنه (وبشهادة موديل جامعة الملك عبدالله) ما زال علميا وزمنيا غير قادر على القيام منفردا ببناء اقتصاد صناعي معرفي حديث بثقافة عمل متطورة دون اللجوء إلى موديل أرامكو، موديل توليد الدجاج الذهبي الوطني في بلادنا، وللحديث بقية. [email protected] تويتر@hamzaalsalem