كنا قد تحدثنا على أن التضخم العالمي القادم المتوقع بقيادة الدولار، لا رفع أسعار الفوائد، هو السيناريو المتوقع بعد الخروج المتواضع من الأزمة الاقتصادية الحالية طالما لم يأت الاقتصاد الأمريكي بابتكار جديد يحرك النمو فيمتص التريليونات الورقية التي ضُخت في الاقتصاد إبان الأزمة المنصرمة. ورفع الأجور المتوقع في أمريكا بسبب التضخم القادم المتوقع، وإن كان سيضاعف من التضخم بسبب زيادة كلفة الإنتاج إلا أنه مُخدر ومُسكت لدافعي الضرائب التي ستزداد قيمتها الإسمية لا الشرائية (أي الضرائب) مع التضخم مما يسهل سداد الدين العام الأمريكي على حساب حملة السندات الأمريكية.. وحملة السندات الأمريكية - من الأمريكان والأجانب- لهم أهداف شتى بشرائها. فمنهم من أجل تخفيض قيمة عملته أمام الدولار كالصين واليابان، ومنهم من تنصب عليه الثروات فجأة وتزول فجأة، كدول البترول. فهم -أي دول النفط- في حالة طفرة النفط، لا تحتمل بلادهم استثمار هذه الثروات المفاجئة في سنوات قصيرة، كما أنهم لا يأمنون انصراف رياح الطفرة السعيدة فجأة كما هبت فجأة، فلا يجدون ملجأ إلا السندات الأمريكية كحساب جارٍ يعطي بعض الفوائد في بنك أمن من الإفلاس. ونحن من حملة السندات الأمريكية بما يقارب النصف ترليون دولار. وهذه لا تعتبر في حقنا استثمارات حكومية أجنبية بقدر أنها مجرد إيداعات حكومتنا لفوائض النفط في مستقر، وإن كان أمنا من الإفلاس، إلا أنه مُعرض للاختلاس القانوني عن طريق التضخم. فالتاريخ هنا يعيد نفسه مع اختلاف بسيط. ففي طفرة السبعينات تضخمت الفوائض الأجنبية لوزارة المالية (و لا أقول احتياطيات نقدية لكي لا يختلط على البعض احتياطيات مؤسسة النقد). وقد كان لها قمتان بلغت فيهما الذروة تدور قيمتهما حول الثلاثين مليار دولار، واحدة عام 1977م والأخرى في 1981م، ثم تناقصت هذه الفوائض حتى وصلت إلى سبعة مليارات بعد حرب الخليج (حسب أخر المعلومات). والشاهد من إيرادي لهذه المعلومات هو: أن ابتداء استخدام هذه الفوائض النقدية في عام 1982م كان بعد أن تضاعفت الأسعار العالمية وتضاعفت أسعار الفوائد، مما أدى إلى ضياع جزء من قوتها الشرائية بسبب التضخم وضياع جزء من قيمتها السوقية بسبب ارتفاع أسعار الفوائد. والفوائد التي تحصلنا عليها من 1973م إلى 1982م والتي تدور حول 5% لا تغطي تضخما على الدولار وصل إلى أكثر من 100 % وارتفاعا للفوائد وصل إلى 20 %. (والأرقام كلها تقريبية، فالمقصود الفكرة). واليوم فوائض النفط المتراكمة المودعة في شكل سندات حكومية أمريكية -غالبا- قد قاربت عشرين ضعفا في قيمتها الإسمية لما جمعناه في الطفرة الأولى. والتضخم قادم قريبا لا محالة، وأما ارتفاع أسعار الفوائد (الذي سيخفض قيم السندات القديمة التي نملكها) فهو ما زال إمكانية محتملة لكنها متعلقة بظهور ابتكار جديد ينهض بالاقتصاد الأمريكي، وهذا يحتاج إلى زمن متوسط إن حصل. وتضخم السبعينات في نظري كان قصدا لا خطأ وذلك من أجل المحافظة على المواصلة في استمرارية ارتفاع أسعار النفط من أجل توفير غطاء للدولار بالنفط بدل الذهب. وإن كانت الكتب الأكاديمية والبحوث العلمية تُرجع تضخم السبعينات إلى خطأ الاحتياطي الفدرالي - لا قصده- إلا أن واقع اليوم يشهد أن الأمريكان قد أُعجبوا باللعبة آنذاك، واليوم هم أشد إعجابا لها. حتى أن «قرين سبان» صاحب لواء الدولار القوي سابقا المناهض لزيادة طبع الدولار، قد انقلب 180 درجة بعد حادث سبتمبر، وأصبح يردد علانية «لا مشكلة نطبع مزيداً من الدولارات» وذلك في كل مناسبة يُسئل فيها عن الدين الأمريكي، حتى أن رئيسة المراسلين في شبكة CNN سخرت منه تعجبا في ذهابه إلى أقصى التطرف في هذا الباب. والمقصود: إن الفوائض النقدية لدول النفط هي مُعضلة حقيقية، والدولار لا بديل له، ولكن يجب أن يُعاد النظر في كيفية استغلالها الاستغلال الأمثل الذي يحميها من ضياع قيمها بالتضخم القادم أو بارتفاع أسعار الفوائد، فإن المسكوت عنه بأننا يجب أن لا نقارن ولا يُحتج علينا بالصين واليابان فهم يحصلون على السندات الأمريكية مقابل طباعة عملاتهم الورقية من أجل تحريك اقتصادهم الصناعي والإنمائي، فهي إذن ورق مقابل ورق، بينما نحن نحصل على السندات الأمريكية مقابل استنزاف موردنا الوحيد - النفط- الذي تقوم عليه حياتنا وثقافتنا وديننا، وشتان كبير بيننا وبينهم في النظر الإستراتيجي والتحليلي. [email protected] تويتر@hamzaalsalem