لكل عصر في العصور التي تعيشها البشرية صفة أو سمة من السمات التي تطبع سلوك الدول والمجتمعات الإنسانية. ولأن المجتمعات بطبيعتها تتنافس وتتزاحم على ما تحتاجه من موارد لتعيش وتتطور وتكوِّن مقوماتها وقدراتها وتكيِّف إمكانياتها لتحيى على هذا الكوكب، ونتيجة لتنافس وسعي المجتمعات للأفضل والاستثمار المنتج لما تنتجه الأرض، قد عملت الرسالات السماوية على تحسين سلوك البشر وبشرت بقيم ومبادئ لضبط هذه السلوكيات، كما حاولت الثقافات والفلسفات والأفكار التي قدمها المفكرون والفلاسفة بدورها أيضاً تقديم فكر وثقافة لتحسين حياة المجتمعات ورفع مستوى التعايش ما بين فئات المجتمع الواحد وما بين المجتمعات الأخرى. إذن الهدف الذي سعت إليه الأديان والرسالات السماوية والثقافات والحضارات التي شهدت البشرية طوال العصور المنصرمة وما ستعيشه في عصور قادمة، هو وضع أطر أخلاقية وسلوكية من خلال الالتزام الإيماني للرسل والأديان والسمو الثقافي والحضاري للفلاسفة والمفكرين، إلا أن اختلاف الثقافات والذهاب إلى أبعد ما تسعى إليه الرسالات السماوية أوجد تبايناً وتعارضاً وصل إلى حد فرض الرأي الواحد سواء من خلال بعض المنتسبين للديانات السماوية الثلاث، أو الفكر الفلسفي والثقافي. ولأن الموارد محدودة وحب الاستحواذ طبيعة بشرية، سعت التعاليم السماوية إلى تهذيبها إلا أن التطبيق لم يرتق إلى ما سعت إليه، فيما عملت النظريات الفلسفية والثقافية إلى تعميق التميز السامي إلى التفوق، مما أوجد حالة من الخلاف ظلت تتصاعد وتتنامى حتى وصلت إلى مرحلة الصراع والذي أوصل المجتمعات والأمم إلى خوض مواجهات دامية وحروب قُتل فيها الملايين من البشر، وبدلاً من أن تهذب وتحسن تعاليم الرسالات السماوية والثقافات سلوك البشر وتجعلهم يتعايشون بسلام يتقاسمون موارد الأرض، أججت الخلافات التي صنعها البشر ووسعت ما بين معتنقي هذه الأديان والثقافات مما جعل بعض المفكرين يتحدثون عن صراع الأديان والثقافات، وهذا ما جعل العديد من المتطرفين يتبنون تلك الأفكار ليشنوا حروباً ومواجهات اعتمد أغلبها على تأجيج الانتماء الديني والتعصب لدين واحد والانحياز لثقافة عرق معين، بدءاً من حروب ما قبل الميلاد من خلال مواجهات وتقاتل الإغريق والرومان والفرس، وبعد الميلاد حاول المتعصبون النصارى فرض ديانتهم على عموم أوروبا وجزء من آسيا، ثم حاولوا التوسع نحو الشرق من خلال شن ما سمي بالحروب الصليبية، ومع ظهور الإسلام الدين الذي يعد خاتم الرسالات السماوية الذي انتشر وعم العالم القديم «آسيا، إفريقيا وأوروبا» بالإقناع وبالفتوحات التي لم يكن هدفها تحقيق مصالح اقتصادية أو توسيع نفوذ، إلا أن التحام أتباع الديانات الثلاث فجر العديد من الحروب والمواجهات الدامية التي وإن استندت إلى المعتقدات الدينية، إلا أن الأسباب الكامنة التي حتى وإن لم تعلن بصراحة كانت تكمن وراء تحقيق مكاسب دنيوية اقتصادية وسياسية، وهذا ما أوجد حالة جديدة من العداء والكراهية بين أبناء الأديان يغذيها بعض السياسيين الذين وجدوا في الاختلافات الدينية مفجراً بل وحتى محفزاً للمواجهات التي انتهت بحروب دامية ومنها ما حصل في أفغانستان والعراق، وهكذا بدلاً من أن تكون القيم الدينية والرسالات السماوية دافعاً للتسامح والتعايش أصبحت لدى البعض أداة للعنف والكراهية والحروب، وهو ما جعل الكثير من القادة والمفكرين إلى التحذير والتنبيه والعمل على إعادة الأمم والمجتمعات الإنسانية إلى القيم الحقيقية والمبادئ السامية للأديان والثقافات، والتي تبشر وتعمل جميعاً على تعزيز القيم الإنسانية التي تسعى إلى التعايش بسلام والتسامح من خلال استنباط المبادئ والأسس التي بشرت بها الرسالاالسماوية، ومن هنا انطلقت دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي رفع راية الحوار بين أتباع الديانات السماوية والثقافات الإنسانية، والعمل على جعل ثقافة الحوار هي سمة وعنوان العصر الذي نعيشه والذي يعد أكثر العصور حاجة لهذه الثقافة بعد أن وصلت الأمم والمجتمعات إلى مستوى عال من النضج الفكري في ظل تناقص وقلة الموارد التي تتطلب سمواً في التعامل والتسامح والتعايش بسلام يسمح بالاستفادة من هذه الموارد واستغلالها لصالح البشر وليس للتقاتل. [email protected]