عندما كنا في الثانوية العامة كان على الطلاب الأقل درجات والأضعف في المستوى العلمي إذا أصروا على إكمال الثانوية العامة أن يتوجهوا للمسار «الأدبي»، حيث يتخرج بالثانوية عامة وبعدها «يحلها الحلال» حيث يكون الخريج (غالباً) لا يدري أين يذهب، ثم يكمل الجامعة في أي تخصص، وأيضاً بعدها «يحلها الحلال». وهنا لا بد أن أقول: إن ضعف التدريس في التخصصات «الأدبية» وسهولة التخرج فيها هو الذي جعلها في الدرجة الثانية بين المستويات الأكاديمية، وليس ضعف محتواها وضعف الحاجة لها، فالمجتمع القوي لا يُدِني من درجة أي تخصص، ولا تسمح أنظمته بأن تكون التخصصات الأدبية والإنسانية مطية سهلة للكسالى والضعفاء. وبعد التخرج من كلية الطب قررت التخصص في «الرعاية الصحية الأولية» فقال لي بعضهم بهذا أنت تختار المسار «الأدبي» من الطب، فعندما تنتهي من الدراسات العليا لن تجد في القطاع الصحي الحكومي مكاناً لائقاً في مركز رعاية صحية مثالي، ولا راتباً مجزياً خارج وزارة الصحة، ولن يكون في يدك «مهنة» تساعدك في الحصول على مكان يدر عليك مالاً في القطاع الخاص فأنت مجرد «طبيب عام» يحمل الدكتوراه. وبعد سنوات من حصولي على الدكتوراه في طب الأسرة والمجتمع تأملت المسارات التي ذهب إليها زملائي خريجو برامج الدراسات العليا في طب الأسرة وفروع طب المجتمع والطب الوقائي، فوجدت الكثير منهم اضطر إلى أن يحور اهتماماته ليعود إلى المسار «العلمي» فمنهم من يعمل طبيب رعاية في مستشفى عسكري أو تخصصي حيث سلم الرواتب مختلف، ومنهم من «ارتد» إلى العمل السريري التخصصي في المستشفيات بعد أن حصل على دبلوم «غدد» أو «سمنة» أو «تبول لا إرادي» ليتقرب من المستشفيات. ومنهم من توجه للعمل الأكاديمي في الصباح، ليمارس التجارة والأعمال الحرة في أوقات الفراغ. أما من رضي ب»المسار الأدبي» البحت فلم يجد في النظام الصحي لدينا ما يجده أقرانه ممن يعملون في النظام البريطاني، ولا ما يجده طبيب الأسرة في كندا أو أمريكا فأمعن في العمل الطبي «الأدبي» ورزقه على الله. في الأنظمة الصحية المتقدمة مثل كندا يتوجه حوالي 50 % من خريجي كليات الطب إلى تخصص طب الأسرة (مقابل 5 % في السعودية) في وقت «نستورد» أطباء العموم من دول تصرف أقل مما نصرف على الصحة والتعليم الطبي. أما نسبة الأطباء في السعودية الذين يعملون في مراكز الرعاية الصحية الأولية فهي فقط 15%، بينما تشير المعايير العالمية إلى أن هذه النسبة يجب أن تصل إلى 50 %. وفي الأنظمة الصحية المتقدمة يكون لكل أسرة طبيب أسرة، هو الذي يساعد المريض في اختيار التخصص بل حتى الطبيب المعالج في المستشفيات ويتفقان على الإحالة إليه. وطبيب العائلة في الأنظمة الصحية المتقدمة يساعده «ترسانة» من العاملين في التخصصات الاجتماعية والنفسية والإدارية تجعل الخدمة التي يقدمها خدمة راقية يطلبها الناس، ويفضلون التوجه إليها على رغبتهم في التوجه إلى خدمات المستشفيات، ولم يتم ذلك دون استراتيجيات جذب وترغيب تتبناها الأنظمة الصحية تجعل طب الأسرة والرعاية الصحية الأولية تخصصاً مرغوباً يدرس ويطبق فيه كل ما يدرس من وقاية وعلاج على مستوى العالم. إن أنظمتنا الصحية قائمة على علاج من يمرض بعد أن يصيبه الألم ويفقد من صحته ما يفقد، وكثيراً ما يتأخر التشخيص إلى أن يصل إلى مستشفياتنا الراقية «قصور المرض» في حالة قد لا تستطيع عندها إسعافه بالكثير. إن ما لا يقبله العقل هو أن يستمر التركيز على الخدمات العلاجية الصرفة. هذه الاستراتيجية التي جعلتنا وبعد صرف المليارات على العلاج نعيش في مجتمع تزداد الأمراض المزمنة فيه يوماً بعد يوم، ويتهاوى نحو مزيد من الفقد والعجز، وذلك بعد مضي أكثر من ستين عاماً من إنشاء وزارة الصحة. وعندما أعود للاختيار ما بين المسارات «الأدبية» و»العلمية» لا بد أن أقول: إن أنظمتنا الصحية هي من جعلت طب الأسرة وطب المجتمع والطب العام والتخصصات الوقائية مسارات طبية «أدبية» وهذا ما يستدعي إعادة النظر وبصورة جذرية وعلى جناح السرعة. - أستاذ مساعد في طب الأسرة والمجتمع- المشرف العام على مركز تعزيز الصحة