إن واحدة من أكثر المناقشات الطبية إثارة للجدال اليوم تدور حول فحوص السرطان، التي تبدو الفوائد المترتبة عليها غير قابلة للنقاش. والواقع أن الاكتشاف المبكر من المنطقي أن يعطي المرضى ميزة في مكافحة المرض، كما يعتقد كثيرون، بيد أن الأدلة لا تدعم هذا الافتراض دوماً، ويُعَد سرطان البروستاتا مثالاً على ذلك. إن الفحص يستلزم إجراء اختبارات مكثفة لأفراد في سن معينة وجنس محدد، بصرف النظر عن التاريخ العائلي أو الصحة الشخصية لتحديد حالة مرضية محتملة. ولكي يكون الفحص مفيداً فإن الاختبار أو الإجراء لا بد أن يحدد المرض محل الفحص بسهولة، ولا بد أن يؤدي العلاج اللاحق إلى فوائد ملموسة قابلة للقياس، أو بعبارة أخرى، لا بد أن يكون مجموع الخاضعين للفحص في حال أفضل من مجموع غير الخاضعين للفحص. وبالنسبة لبعض المشاكل الصحية، مثل ارتفاع مستوى الكولسترول في الدم، فإن الفحص يسفر عن نتائج إيجابية؛ حيث يقيس اختبار دم بسيط كمية الكولسترول المفيد والضار في الدم؛ الأمر الذي ييسر من عملية استكشاف أمراض القلب والأوعية الدموية المتصلة بالكولسترول، التي قد تؤدي إلى أزمات قلبية أو سكتات دماغية. وأولئك الذين يخضعون للفحص والتشخيص والعلاج تصبح معدلات إصاباتهم بحالات القلب والأوعية الدموية أدنى. ويتطلب فحص سرطان البروستاتا أيضاً اختبار دم - اختبار المستضدات الخاصة بسرطان البروستاتا؛ حيث يشير ارتفاع مستويات مستضدات سرطان البروستاتا إلى وجود سرطان البروستاتا، حتى ولو لم يتم استكشاف أي اختلالات بدنية، ولهذا يتم أخذ عينة من النسيج. وعند هذه النقطة يمكن إجراء التشخيص، فإذا كان إيجابيا فإن علاج السرطان، كالجراحة أو الإشعاع، يصبح الخطوة التالية، على أمل أن يتماثل المريض للشفاء. ويزعم أنصار الفحص أنه يساعد في استكشاف وعلاج السرطان في وقت مبكر، عندما تكون فرص علاجه عند أعلى مستوياتها. وفضلاً عن هذا فإن المرضى الأصغر سناً على الأقل يمكنهم تحمل الآثار الجانبية لعلاج السرطان بشكل أفضل. ويزعم أنصار الفحص أيضاً أن التراجع الذي استمر لعقدين من الزمان في معدلات الوفاة الإجمالية بسبب سرطان البروستاتا كان نتيجة لانتشار اختبار مستضدات سرطان البروستاتا على نطاق متزايد الاتساع، بل إنهم يشجعون المزيد من برامج الفحص الأكثر كثافة وقوة. ولكن فوائد الفحص ليست صريحة ومباشرة بقدر ما يزعم أنصاره. لا شك أن الرجال المعرضين لخطر الإصابة بسرطان البروستاتا - على سبيل المثال - هؤلاء الذين لديهم تاريخ عائلي للإصابة بالمرض، أو الأمريكيون من أصل إفريقي، أو الرجال الذين يعانون تضخم البروستاتا، والذين يعالجون بمثبطات أنزيمات اختزال ألفا 5، التي قد يعكس فشلها في خفض مستوى مستضدات سرطان البروستاتا زيادة خطر الإصابة بسرطان البروستاتا. وربما كان لزاماً على هؤلاء أن يفكروا في إجراء هذا الاختبار. ولكن بالنسبة لأغلب الرجال الأصحاء فقد أوصى فريق خدمات العمل الوقائي في الولاياتالمتحدة - وهو عبارة عن لجنة مستقلة من الخبراء في الوقاية والرعاية الصحية الأولية - علناً بعدم التوسع في إجراء اختبار مستضدات سرطان البروستاتا؛ ذلك أن العديد من التجارب العشوائية الحسنة الإدارة التي أُجريت على البشر لآجال طويلة لم تُظهِر أي زيادة في احتمالات بقاء هؤلاء الذين خضعوا للفحص والتشخيص والعلاج، مقارنة بأولئك الذين لم يخضعوا للفحص قَط. ومن بين الدراسات التي استشهد بها فريق خدمات العمل الوقائي في الولاياتالمتحدة أظهرت إحدى الدراسات التي أُجريت في أوروبا قدراً ضئيلاً من الاستفادة بين أفراد مجموعة فرعية من الرجال، مع غياب أي تحسن يُذكَر في نوعية الحياة. وأظهرت دراسة أخرى أُجريت في الولاياتالمتحدة عدم وجود أي دليل على أن فحص مستضدات سرطان البروستاتا كان سبباً في تحسن معدلات البقاء على قيد الحياة بين المصابين بسرطان البروستاتا. ولم تجد دراسة أخرى حديثة قارنت بين النتائج بالنسبة للمرضى الذين خضعوا لاستئصال غدة البروستاتا جراحياً والنتائج بالنسبة للمرضى الذي خضعوا للمراقبة فقط أي فارق في معدلات البقاء بين المجموعتين. ولأن متوسط العمر عند التشخيص يتراوح بين 71 و73 عاماً فمن المرجح أن يموت الرجال لأسباب أخرى قبل أن يقتلهم سرطان البروستاتا. ولا توجد أدلة معقولة تشير إلى أن سرطان البروستاتا من الدرجة المتدنية الأقل خطورة قد يتطور على نحو ثابت إلى درجات أعلى من السرطان الأشد خطورة؛ ولهذا فإن العلاج المبكر ليس ضرورياً. وفضلاً عن ذلك فإن علاج السرطان ينطوي غالباً على آثار جانبية خطيرة، بما في ذلك سلس البول، وضعف الانتصاب، وبالنسبة لهؤلاء الذين خضعوا للعلاج بالإشعاع التهاب المستقيم السفلي أو المثانة، فضلاً عن تأثيرات لا يتم الإبلاغ عنها عادة مثل عدم القدرة على التحكم في الغائط، وهذا من شأنه أن يؤثر سلباً في نوعية حياة المرضى. ولأن العديد من المرضى الذين يتم تشخيصهم بالإصابة بسرطان البروستاتا نتيجة لاختبار مستضدات سرطان البروستاتا لن يعانوا أي أعراض على الإطلاق فإن مثل هذه العواقب يصعب تبريرها. ورغم هذا فإن كثيرين يرفضون التخلي عن الفحص؛ ولهذا فإن الاستعانة ببرنامج للمراقبة النشطة قد تشكّل الوسيلة الأفضل للتعامل مع العواقب الأشد خطورة للفحص المفرط: العلاج العنيف السابق لأوانه. في برنامج المراقبة النشطة يتم تأخير علاج المريض الذي يتم تشخيصه بأخذ عينة بعد اختبار مستضدات سرطان البروستاتا؛ فيتم إخضاعه بدلاً من ذلك للمراقبة عن كثب بالاستعانة باختبارات متابعة عديدة. وفقط عندما تظهر علامات تشير إلى أن السرطان قد يصبح خطيراً يبدأ العلاج. ورغم أن هذا النهج لا يزال قيد الدراسة فإن النتائج حتى الآن تبدو واعدة؛ فالرجال الذين يشاركون في برامج المراقبة النشطة من الأرجح بنحو أربعة عشر مِثلاً أن يموتوا بأسباب لا علاقة لها بسرطان البروستاتا. وفي حين تميل الأدلة إلى ترجيح كفة الميزان لغير صالح إجراء اختبار مستضدات سرطان البروستاتا على نطاق واسع فإننا في احتياج عاجل إلى اختبار فحص جديد أو علامة بيولوجية جديدة تسمح بالتمييز بشكل فعَّال بين سرطان البروستاتا الذي يحتمل أن يهدد الحياة والأشكال الأقل خطورة من سرطان البروستاتا. وعلى نحو مماثل فإن العلاجات الأقل مخاطرة مطلوبة بشدة. إن برامج المراقبة النشطة تشكل احتمالاً مشجعاً للحد تماماً من العواقب السلبية الناجمة عن اختبار مستضدات سرطان البروستاتا، لكن في غياب ممارسات الفحص المحسنة إلى حد كبير فإن فحص سرطان البروستاتا من غير المرجح أن يساعد المرضى، بل قد يتسبب في أضرار جسيمة. * أستاذ الطب السريري في مركز بيت إسرائيل الطبي في كلية الطب بجامعة هارفارد. حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2012. (بوسطن - خاص الجزيرة) www.project-syndicate.org