كما في العلوم يحصل في السياسة، فالحيز الفارغ لا بُدَّ أن يملأ، وليس بالضرورة أن يكون الامتلاء أفضل مما كان، بل كان الأفضل أن يكون الفراغ نقيًا بدلاً من أن يكون البديل فاسدًا. في العراق بعد الغزو الأمريكي ومن ثمَّ الاحتلال حصل فراغٌ سياسيٌّ كبيرٌ، بعد اختلال القوى السياسيَّة والاجتماعيَّة وبعد أن نأت الدول العربيَّة المجاورة بنفسها عمَّا يحدث في البلد المجاور، الذي يشكِّل عمقًا وامتدادًا لأمنها، ومع أن النأي جاء أغلبه نتيجة (شبهة دعم الاحتلال الأمريكي) إلا أن ذلك أدَّى إلى فراغ المسرح السياسي في العراق، فاستغلَّت دول مجاورة أخرى الوضع لحلِّها وحققت مكاسب سياسيَّة واقتصاديَّة لا تزال تتنامى نتيجة تراخي الجوار العربي، مما أدَّى إلى تكثيف الحضور الإيراني والتركي ليس فقط في المجال السياسي وتزايد النفوذ وخصوصًا الإيراني إلا أن البلدين أصبحا شريكين قويين في الاقتصاد العراقي وبالذات إيران، التي غزت الأسواق العراقيَّة ببضائع رديئة يشكو منها العراقيون إلا أنها الوحيدة الموجودة والمتوفرة وبأسعار تنافسيَّة. وهذا ما رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى قرابة العشرين مليار دولار. تركيا أيضًا عزَّزت وجودها الاقتصادي ورفعت من حجم التبادل التجاري بين بغداد وأنقرة إلى 15 مليار دولار سنويًّا وهو رقم قابل للتصاعد. مقابل نمو وتصاعد الحضور الاقتصادي لهذين البلدين الذي دعم نفوذهما السياسي وعزَّز حضورهما في العراق، تقلَّص الحضور العربي، بل غاب كليًّا لدول الجوار، فالمملكة العربيَّة السعوديَّة التي تنتج سلعًا يحتاجها الاقتصاد العراقي وتقبل عليها الأسواق العراقيَّة لجودتها وقدرتها التنافسيَّة إلا أن عدم تفعيل آليات دعم الصادرات السعوديَّة جعل قدرتها التنافسيَّة ضعيفة، ومن أهم هذه الفعاليات انعدام نقاط العبور والمنافذ بين السعوديَّة والعراق، فرغم وجود منفذ ومعبر حدودي سعودي - عراقي جيَّد وفعَّال وهو منفذ حديدة عرعر إلا أن البضائع السعوديَّة لا تزال تضطر إلى التوجُّه إلى الأردن ومن ثمَّ إلى العراق وهو ما يضاعف المسافة أكثر من أربع مرات، إذ إن المسافة بين المملكة والعراق عبر منفذ عرعر من وسط عرعر حتَّى وسط بغداد 320كم، وفي حين تضطر الشاحنات السعوديَّة الناقلة للصادرات السعوديَّة إلى قطع 1500كم من خلال سلوكها الطريق الدولي المتجه للرطبة على الحدود العراقيَّة الأردنيَّة، ثمَّ قطع المسافة الطويلة من الرطبة إلى بغداد بطول يصل إلى أكثر من 800 كم ولا يخدم الطريق سوى محافظات الأنبار وبغداد، أما طريق عرعر - بغداد الذي يقتصر على 320 كم يمر بدءًا من جديدة عرعر التي تبدأ 40 كم، ثمَّ يخترق النخيب وهو موطن قبيلة عنزة (آل هذال) ومنها إلى كربلاء وتستطيع الشاحنات أن تذهب إلى النجف أو محافظة بابل وتسلك طرقًا تشمل مدن المسيب والمحموديَّة والإسكندريَّة وعن طريق هذه المدن يمكن التوجُّه إلى المحافظات الوسطى والجنوبيَّة، أما إذا واصلت إلى بغداد فتحتاج إلى أقل من 100كم ومن العاصمة يمكن التوجُّه إلى المحافظات الشماليَّة. كل هذه المزّايا تفقدها الصادرات السعوديَّة بسبب عدم تشغيل منفذ عرعر الذي إذ ما فتح لا بد وأن يعزِّز حركة التجارة بين البلدين ويرفع من نسبة تدفق الصادرات السعوديَّة القادرة على المنافسة والتي تحظى بطلب عراقي متنامٍ. فتح المنفذ مسؤوليَّة ثلاث وزارات هي: الداخليَّة والتجارة والصناعة، والماليَّة التي تخضع لها الجمارك ولأن الأمر يشكِّل فائدة، بل فوائد جمَّة للمملكة العربيَّة السعوديَّة فإنِّ الإسراع في فتح هذا المنفذ ضرورة ملِّحة وفي صالح التجارة السعوديَّة. [email protected]