عندما تطالع حجم الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد السعودي الصادرة عن هيئة الاستثمار لا بد أن تُذهل من حجمها؛ فهي بمئات مليارات الريالات، التي ساهمت في فتح أكثر من نصف مليون وظيفة، ثلثها للسعوديين، لكن الأهم من هذه الأرقام هو نوعية الاستثمارات نفسها، والقطاعات التي تركزت فيها. ومع التغيير الذي حدث برأس جهاز الهيئة لا بد أن مرحلة جديدة وتوجهاً وأهدافاً مختلفة ستكون حاضرة في مستقبل عمل الهيئة، وهنا لا بد من الانتقال عملياً لما يحتاج إليه الاقتصاد؛ فالتضخم الموجود حالياً، الذي تسبب في ارتفاع تكاليف المعيشة بنسبة كبيرة، فاقت ثلاثين في المئة منذ بداية القرن الحالي، بحسب مؤشر تكاليف المعيشة الصادر عن مصلحة الإحصاءات العامة، سببه محدودية الطاقة الاستيعابية في الاقتصاد؛ فالكثير من السلع والخدمات يتم استيرادها، في الوقت الذي يمر فيه الاقتصاد المحلي بنمو كبير نتيجة الإنفاق الحكومي الضخم، الذي أوضح بواطن القصور في حجم الإنتاج المحلي ونوعيته؛ وبالتالي فإن هيئة الاستثمار يتوقع منها أن تساهم في المرحلة القادمة في لعب دور أكبر في الإسراع بتوطين التقنية، وفتح مشاريع إنتاج ذات علاقة بالقطاعات الاقتصادية التي يتم استيراد الكثير من المنتجات المتعلقة بها غير المتوافرة محلياً؛ فقطاع الإنشاءات أظهر الحاجة الماسة لمواد البناء، وكذلك تسهيل إجراءات الشركات في مجال المقاولات بين شركات محلية وعالمية؛ حتى يتم تنفيذ المشاريع المطروحة بالكامل؛ إذ أصبح تعثر المشاريع ظاهرة واضحة، إضافة أيضاً إلى للاستفادة من الأفكار العالمية الحديثة في هذا القطاع، من خلال إدخال تقنيات متطورة، تساهم في الإنجاز العالي الجودة، وكذلك بتكاليف أقل، بخلاف طرق التمويل لهذا القطاع، التي توفر له التمويل الملائم والمحتكم للخبرة بعيداً عن الطرق التقليدية التي تتم حالياً، والتي لم تمنع تعثر الشركات من خلال شراكات بالقطاع المالي، يتم تنسيق العمل على فتح مجالها مع مؤسسة النقد، كما أن التحولات في الاقتصاد المحلي، التي أُضيف لها صناعة التعدين، تحتاج إلى خبرات وتقنيات لا بد من استقطابها؛ لكي تتأسس هذه الصناعة على قاعدة قوية تماماً، كما هي الحاجة لشركات متخصصة في الصناعات التحويلية، التي تعتمد على المنتجات البتروكيماوية الأساسية والوسيطة المنتجة محلياً بكميات كبيرة، وتبدو الحاجة كبيرة لتوطين العديد من الصناعات الغذائية وكذلك الأجهزة اكهربائية والإلكترونية وقطع الغيار؛ إذ إن حجم السوق المحلي والإقليمي كبير جداً، والمملكة تملك الإمكانيات الكبيرة لجذب هذه الصناعات. وفي الخدمات فإن القطاعات الصحية والتعليمية تُعَدّ بوابة واسعة لنجاح الاستثمارات في هذه القطاعات من جامعات وكليات تدريب ومستشفيات، مع الحاجة للتوسع في الصناعات الدوائية. وفي مجال الطاقة فإن ما تحتاج إليه المملكة من زيادة في إنتاجها مستقبلاً كبير جداً، ولا بد من إدخال شراكات تعطي قيمة مضافة وحلولاً لإنتاجها بطرق متعددة بعيداً عن الأسلوب التقليدي، بالاعتماد على النفط أو الغاز اللذين يُعدَّان مصدراً رئيسياً لدخل الموازنة الحكومية، وكذلك استقطاب الشركات التي تستطيع أن تقدم الحلول لتقليل الاستهلاك السلبي للطاقة، سواء بإنتاجها أو إيجاد البدائل للقطاعات التي تستهلك كميات كبيرة منها؛ فالمرحلة السابقة من عمل الهيئة أضافت نوعية من الاستثمارات لم تضف للاقتصاد جديداً، وليست أولوية، بل إن المفروض أن يُعاد تقييم هذه الاستثمارات والنظر في جدواها وأهميتها وأثرها الإيجابي أو السلبي لتنقية الاقتصاد منها، أو دعمها حسب نوعيتها. حجم الاستيراد المحلي يتوقع أن يفوق هذا العام أربعمائة مليار ريال، والاقتصاد المحلي يستطيع استيعاب استثمارات بقرابة تريليون دولار خلال العشرين عاماً القادمة، ولا بد من الاتجاه نحو تقليص الاستيراد وزيادة الإنتاج المحلي؛ لأنه سيوجه الأموال للاقتصاد، ويفتح فرصاً وظيفية ضخمة، ويعزز من قوة ومتانة الاقتصاد والاستفادة القصوى من البنى التحتية للمدن الاقتصادية والصناعية العديدة؛ فالهيئة لن تكون الوحيدة المطالبة بهذا الدور بل ستكون مكملة لعمل الجهات التي تُعنى بالاستثمار المحلي.