عندما كتب الكاتب الأمريكي الفرنسي جوناثان ليتل قصة «العطوفون» عام 2006، فإنها لامست شغاف القلوب، ولكنه اليوم يؤلف كتابًا جديدًا اعتمد على تجربته القاسية مع مقاتلي الجيش السوري الحر، بما في ذلك المقاتلون الذين كانوا في مدينة حمص. وفي حواره مع مجلة (دير شبيجيل) الألمانية، تحدث جوناثان عن تفاصيل رحلة سرية قام بها عبر الحدود اللبنانية إلى الداخل السوري، وحواراته مع الناشطين المدنيين ومقاتلي الجيش السوري الحر، وتسجل مذكرات ليتل، التي كتبها من 16 يناير حتى 4 فبراير 2012 الماضي، الأيام الأخيرة للمقاومة في مدينة حمص، التي تعد أحد معاقل الثوار الذين يقاتلون نظام الطاغية بشار الأسد قبل أن تشن قوات الأسد هجومًا كاسحًا أدى إلى تدمير المدينة بكاملها وتحويلها إلى ركام. كان ليتل ينوي أن يستغل مذكراته في كتابة سلسلة من المقالات لجريدة (لوموند) الفرنسية، ولكنه وجد أن المذكرات طويلة للغاية، لذلك قرر ليتل أن ينشرها في كتاب بعنوان «مذكرات من حمص» صدر في مايو الماضي بالفرنسية، وستصدر الترجمة الألمانية له في أغسطس 2012. أولى مواجهة ليتل بالرعب والمذابح كانت في حرب سراييفو عام 1993، واستمر في ذلك في عدة مناطق للصراعات حتى 2001، عندما تعرض لجرح بسيط في هجوم في الشيشان. يشعر ليتل بالحزن لأن العديد من المقاتلين الذين التقاهم في حمص أصبحوا الآن في عداد الأموات. وفيما يلي نص الحوار الذي أجراه مع مجلة (دير شبيجيل) الألمانية: * لما يقرب من 20 عامًا زرت مواقع الحروب والفظائع، في البوسنة والشيشان وجورجيا والسودان والكونجو والآن سوريا. وقصتك «العطوفون» التي تصور الهولوكوست من وجهة نظر ضابط في قوات الشرطة الخاصة للنازيين، جلبت لك شهرة عالمية، هل أنت مفتون بالقتل؟ - دعونا نضعها في ذلك الإطار، إنه بالفعل يثير اهتمامي، فالإجابة هي نعم. سؤال جيد * أعمالك تترك انطباعًا أنك فعليًا يستحوذ عليك العنف والإفراط فيه، لماذا؟ - هذا سؤال جيد، ولكنني لا أعلم لماذا! ملل أوروبا * هل حياة السلام والرخاء التي نعيشها الآن في ذلك الجزء من أوروبا يثير الملل لديك؟ - لا، إنها ليست مملة ولكنني مهتم بالسلوك الإنساني في سياق الصراعات العسكرية، الذي هو عبارة عن عنف منظم على المستوى المجتمعي، أهتم بذلك أكثر من اهتمامي بالجانب المرضي. الأفراد المجرمون والقتلة المحترفون والمرضى النفسيون وأشباههم لا يمثلون الكثير بالنسبة لي. عنف الحرب * ولكن هل من السهل فصل الاثنين؟ العنف في الحرب يصعب السيطرة عليه..أليس كذلك؟! - الحرب تقود إلى الجريمة، إلى التخلي عن المعايير الطبيعية، إلى الوحشية المفرطة والسادية، ولكنه عنف جماعي، جنون جماعي، وليس فقط لاعقلانية من أحد الأفراد مثل أندرياس بريفيك في النرويج الذي قتل العشرات بدوافع يمينية، فدائمًا هناك نظام يعمل في كواليس القتل، تنظيم إداري للقتل. رومانسية البطولة * الناس في سوريا انتفضوا ضد نظام القمع ولكن بصورة فوضوية في البداية، والمفكرون عادة ما يثير اهتمامهم وحماسهم القتال من أجل الحرية، هل هذا الأمر انطبق عليك؟ - رومانسية البطولة الثورية، هل هذا ما تعنيه؟ أنا أدعم موقف الشعب السوري والمعركة التي تقاتل المعارضة من أجلها الآن، لا شك في ذلك، ولكنني أفرق بين رأيي كمواطن معاصر للحدث، وما بين عملي ككاتب وصحفي. فالنزعة العاطفية للحرية والفلسفة العامة التي تحيط بها لا تثير اهتمامي كثيرًا. قيمة أخلاقية * هل ترى قيمًا أخلاقية وثورة معنوية في مجرد الملاحظة والمتابعة؟ - أنا أريد أن أكون شاهدًا وأن أسجل حقيقة التاريخ كما يحدث أمامي، بدون إضافة البعد الأخلاقي له، فأنا أعمل بالأساس كصحفي في السنوات الأربع الماضية، وكثيرًا ما أكون في مثل ذلك النوع من المواقف. معالجة أدبية * هل تشعر بانجذاب نحو كتابة معالجة أدبية لما مررت به ورأيته في سوريا؟ - ليس في اللحظة الراهنة، كتابي «مذكرات من حمص» هو بمثابة تقرير، وليس عملا أدبيا. مناشدة الغرب للتدخل * كما أن ملاحظاتك أيضًا ليست بيانات رسمية، على عكس المفكرين الفرنسيين أمثال برنارد هنري ليفي، فأنت لم تستغل وقتك في سوريا وكتاباتك عما رأيته هناك كقضية لمناشدة حماسة للغرب لشن تدخل عسكري.أليس كذلك؟ - لا، هذا كان سيبدو سخيفًا بالنسبة لي، ولكن هذا لا يعني أنني ليس لدي موقف بشأن ذلك، فأنا أعبر عن نفسي بمستوى مختلف، فالناس يموتون في سوريا، في الوقت الذي يكتفي فيه الجميع حول العالم بالحديث عن ذلك. الدبلوماسيون الغربيون يتحدثون بصورة سخيفة جدًا بكلام تافه بدون أن يفعلوا شيئًا، فما الذي سأحققه إذا ما أصدرت مناشدات؟ بالنظر إلى ما يحدث في سوريا فإن اقتراحي اليائس الأخير هو أن نصمت جميعًا عن الكلام، ونترك السوريين الشجعان يواجهون مصيرهم، هذا للأسف ما يحدث الآن. تنحي الأسد * الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي الآن يجمعون على المطالبة بضرورة تنحي الأسد، هل هذا حل؟! - إنهم أغلقوا أعينهم عن ممارسات نظامه منذ فترة طويلة، فمنذ أقل من عامين ، تم استقباله في باريس مع زوجته كديكتاتور «طيب»، باعتباره مصلحا وداعية للتحديث! الآن نرى نتيجة ذلك، الغرب لديه تاريخ طويل من القدرة على إجراء ترتيبات مع أي ديكتاتور من أي نوع. واقعية الغرب * على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر بديكتاتور يتصرف بطريقة عقلانية ومتوقعة؟ - نعم، «الديكتاتور المتنور»، رؤساء دولنا وحكوماتنا يتعاملون في بعض الأحيان بصورة تتماشى للغاية مع أسس السياسة الواقعية، فلا شيء أكثر عملية من وصف حاكم غير مقبول لديك بأنه مجنون، فهذا الأمر يوفر عليك تقديم الكثير من التوضيحات. نفسية الديكتاتور * كما كان الأمر مع القذافي على سبيل المثال؟! - نعم ، أو مع عائلة كيم في كوريا الشمالية، بالنسبة لي فإن نفسية الديكتاتور ليست هي لب الموضوع، فإذا كان أحدهم مجنونًا، فإن هذا لا يعني بالضرورة أي شيء في مجال السياسة. القذافي من المؤكد أنه كان غريب الأطوار أكثر من المعدل الطبيعي، ولكن لم يكن أحد مجنونا أكثر من نابليون على سبيل المثال، أو بعض القادة الألمان في ثلاثينيات القرن الماضي. الحالة السورية * أنت لا تستطيع في الحقيقة المقارنة بينهم بالرغم من ذلك. - بالتأكيد، أنا فقط أعني أن نابليون، في سلوكه الشخصي، كان من الواضح أنه كان لديه جنون أناني، ولكن العامل الحاسم هو أن هناك نظامًا يدعم كل حاكم يتحكم في شعبه عن طريق العنف، إن الأمر لا يتعلق فقط بشخص واحد غريب الأطوار، فالأسد لا يتخذ قراراته بمفرده، ولكن بنية النظام في سوريا غامضة للغاية، وتغيير النظام يتطلب أكثر من مجرد إزالة شخص واحد، بلا شك أن الدائرة الداخلية للأسد تقوم بحسابات إستراتيجية وعقلانية، حتى لو كانت نتائج تلك القرارات محض جنون. * سوريا عبارة عن فسيفساء لمختلف الاتجاهات الدينية التي استطاعت أن تتعايش بانسجام لوقت طويل، هل من الحتمي أن تتحول الحرب الأهلية إلى حرب دينية؟ - أنا على يقين بأن الثورة السورية لم تكن مدفوعة بمخاوف دينية أو عرقية في البداية، ولكن بمخاوف اقتصادية واجتماعية ، ولكن إذا تدهور الموقف بصورة أكبر من ذلك، فمن المحتمل أن يحدث بالضبط ما يتخوف منه الغرب.المتطرفون سيخترقون سوريا من كافة الاتجاهات لإساءة استغلال الثورة لأغراضهم الخاصة غير المقبولة، وهذا سبب آخر يجعلنا لا نكتفي بالتفرج والانتظار. * ألم نصل إلى تلك النقطة بالفعل؟ - لم ألتق بأي متطرف في حمص، ولكن النظام يلعب بالأوراق الدينية والعرقية ليدفع الأقليات غير السنية إلى جانبه، مثل العلويين والإسماعيليين والدروز والمسيحيين، وهذا يظهر لنا كيف يشعر النظام المحاصر حتى هذه اللحظة. الأسد كان يمكن بسهولة أن ينزع فتيل الثورة في بدايتها عن طريق إطلاق حزمة من الإصلاحات الاجتماعية، ففي البداية لم يكن لدى المتظاهرين نية للإطاحة به، فقد أرادوا المساواة ولكن المعركة الآن أصبحت حياة أو موتا. (لبننة) سوريا ماذا ستكون النتيجة؟ - الجيش السوري والقوات الأمنية ليست قوية بالصورة الكافية لهزيمة الثورة بصورة كاملة، كما يمكن أن نرى الأعداد المتزايدة من المنشقين، ولكن الثوار أيضًا ليسوا بالقوة الكافية للانتصار بدون المساعدة من الخارج، ولكن الأسوأ يمكن أن يكون حرب استنزاف طويلة تدمر البلاد بالكامل، ويمكنني أن أتخيل حدوث ذلك كملاذ أخير بأن يختار كلا الطرفين تقسيم البلاد وانسحاب نظام الأسد إلى المعاقل العلوية، وهذا، بما يحمله من «لبننة» سوريا بتكرار الحالة اللبنانية، فإنه سيعني تطهيرًا عرقيًا هائلاً. خيارات الأممالمتحدة * ما الخيارات التي تمتلكها الأممالمتحدة فيما يتعلق بإجبار الأسد على التنحي؟ - لا أعتقد أن الأممالمتحدة مستعدة للتدخل، وبقدر ما هو مؤسف، فإن هذا هو الوضع الراهن، ولكن بين طرفي نقيض عدم التدخل مطلقًا أو الغزو العسكري، هناك منظومة كبرى من الإجراءات الدبلوماسية والعسكرية التي يمكن اتخاذها: حرب إليكترونية ضد الأنظمة الأمنية السورية، ضربات جوية محددة، مساعدات لوجستية للثورة، عزل كامل للنظام. الموقف الروسي * روسيا تحدد ما الذي يطير وما الذي لا يمكن أن يطير، من خلال مجلس الأمن. - الناتو لم يطلب إذن روسيا قبل قصف الصرب في كوسوفو أيضًا. روسيا تحترم القوة، وسوف تعتبر أن أي تردد هو بمثابة فرصة لبسط نفوذها. * هذا الكلام يذكرنا بصورة كبيرة بحقبة الحرب الباردة؟ - وهذه هي اللغة التي تفهمها روسيا جيدًا، السلوك الحاسم الذي يوضح الأمور بجلاء: «تبًا لك، إننا سنفعل ما نراه صحيحًا، بك أو بدونك». * من المحتمل أن انطباعك عن روسيا ينبع من خبرتك في القوقاز؟ - آه نعم بلا شك، روسيا دائمًا ما كانت ترى شعب القوقاز، وبخاصة الشيشان، على أنهم متوحشون، ولكن في الحقيقة، فإن الروس تحت حكم بوتين هم المتوحشون، ورأيي أن روسيا في عهد بوتين واضحة للغاية: مقززة وفاسدة وضالة بنظام غير ديمقراطي عفن حتى النخاع، ونأمل أن تتخلص روسيا من كل ذلك قريبًا. دموية الصراع السوري * الصراع في سوريا أصبح أكثر دموية، بتصعيد للعنف من كلا الجانبين ويتم عرض الضحايا من الطرفين من أجل إشاعة الخوف في الآخر أو إظهار الغضب منه، كيف يمكن وقف القتل؟ - لا فكرة لدي، فقد تم التعامل مع الموقف بصورة سيئة للغاية لدرجة أن الخيار الوحيد الباقي هو منع اتساع دائرة الدمار، فإذا ما انزلقت سوريا إلى فوضى عارمة، سوف تسحب جيرانها أيضًا، وبخاصة لبنان. * بعبارة أخرى، أنت تخشى من انتشار الصراع للمنطقة بكاملها؟ فأنت كتبت في كتابك أن بعض القادة العسكريين داخل الجيش السوري الحر ينظرون في فكرة كيفية سحب إسرائيل إلى المعركة. - هذا سوف ينتهي بصورة سيئة، أنا بطبعي متشائم، ودائمًا ما أتوقع السيناريو الأسوأ ليس فقط السيناريو المحتمل، ولكن الأكثر توقعًا. شجاعة السوري الحر * ما هو انطباعك عن مقاتلي الجيش السوري الحر، والذي بدأت صفوفه تزداد من المنشقين من جيش النظام؟ - إنهم متحمسون بصورة غير عادية، وشجعان ومستعدون للموت، فبالنسبة للكثير منهم فإن الانشقاق عن الجيش، والذي يمكن أن يصبح خطوة قاتلة في حد ذاتها، كان يعتبر فعلاً من الانعتاق والتحرر، فعادة ما يكون المنشقون قد شاركوا في القمع عن طريق اتباع الأوامر لإطلاق النار على المتظاهرين، والذين يتعاطفون معهم، ثم بعد ذلك يتراكم لديهم شعور رهيب بالذنب. مشاهد مروعة * لقد عرض لك الثوار مقاطع فيديو لمشاهد مروعة، كيف كان رد فعلك؟ لقد رأيت الكثير من الفظائع، هل أثرت عليك؟ - هناك ثلاثة أنواع من الصور انتشرت في سوريا، فهناك صور الضحايا التي يحتفظ بها ذووهم على هواتفهم الجوالة، لتذكرهم بالذكرى المروعة لوفاة أب أو أخ أو زوج، ثم هناك نوع من صور الذين قتلوا في الأحداث أو عذبوا، أو صور دموية يريدون من خلالها أن يثيروا مشاعر الناشطين حول العالم من أجل التحرك السياسي. ثم هناك فيديوهات لعصابات الأسد أنفسهم التي يتم وضعها على شبكة الإنترنت، لإظهار عنفهم كتحذير وردع: انظروا هذا ما سوف يحدث لكم! * هناك حدود لما هو مقبول..هل توافق على ذلك؟ - بعض تلك الفيديوهات قد تبدو فظيعة للغاية، وأنا لا أبالغ في ذلك، وأنا أعني طريقة تصوير تلك الفيديوهات، فالكاميرا تتنقل عبر الأجساد المشوهة والمبتورة وتظهر الجراح وثقوب الرصاصات عن قرب. الهدف هنا واضح، وليس هناك حاجة للصحفيين بأن يكونوا شركاء في ذلك. - يمكن أن يتجنبوا السقوط في ذلك الفخ عن طريق استخدام قواهم لتحليل الأمور، ولكن في المقابل فإننا نجنح إلى حجب بعض تلك الصور، فأنا رأيت بعض الصور عبارة عن دعاية محضة ولا يمكن التأكد من صحتها، ولكنني أعتقد أننا نستطيع أن نرى حقيقة العنف في وجوه الضحايا ونفرق ما بين الصور الأصلية والمفبركة. مخاطر تهدد الصحفيين * العديد من الصحفيين قتلوا في سوريا، كيف تعاملت مع تلك الاحتمالية، أن جوناثان ليتل، الكاتب البارز وأبرز مؤرخي المذابح، ربما يفقد حياته في صراع دموي في الشرق الأوسط؟ - هناك الكثير ليقال عن هذا، فكل الصحفيين الذين يعملون في مناطق الصراعات يعرضون أنفسهم للمخاطر، ويعلمون أنهم يخاطرون بحياتهم، فأنت تفعل ما تستطيع لكي تقلل المخاطر بناء على خبرتك وحواسك وغرائزك، ولكن هناك دائمًا عنصر المخاطرة. أما النشطاء السوريون فيخاطرون بصورة أكبر منا بكثير جدًا، وكثيرًا ما يخاطرون بأنفسهم من أجلنا، من أجل حمايتنا، يجب علينا أن نلقي مزيدًا من الاهتمام بشجاعة مثل ذلك النوع من السوريين الكرماء المضيافين أكثر من اهتمامنا بالصحفيين الأجانب، الذين دائمًا ما يكون أمامهم خيار الخروج من البلاد عندما يحصلون على ما هو كاف لهم. نقلا عن (دير شبيجل) الألمانية