مسفر الدوسري شاعر الحب والعذوبة والجمال، صاحب تجربة شعرية غنية مبنى ومعنى ومغنى، له رؤية ورؤية شعرية خاصة متفردة، عبر منجز شعري يتسم ببناء معماري إبداعي متفرد متجدد، تندلق نصوصه بنسق رومانسي ندي شجي على مستوى اللفظ والتركيب فمعجمه اللغوي متفجر بطاقات إيحائية وإيماءات دلالية عميقة أنيقة دقيقة فهو شاعر يستنطق ذواتنا، ويكشف عن مكنونات أنفسنا ويفتح النوافذ لأنفاسنا، نغوص معه في خلجات أرواحنا، ورفيف أحلامها، ورصيف صراعاتها يقول ذات سفر وجداني: أو بالغلط.. صوتي وصل لك ممتلي بعضه.. رماد فلنتمعن في الحيز الحسي الذي ملأ طرقات الحنين، فنجد أن المفارقة في قوله «رماد» التي تحيلنا إلى دلالات مكتنزة بالاحتراق وما يتركه من رماد الفقد فتتطاير كلماته في المدى بلا صدى أو ندى يبلل الروح، فلنقف عند مفردة «باردة» في قوله: وبشّرت بك.. نوارسي.. وحزن مواني بارده فكانت ضفافه باردة خالية من الموجات الوجدانية الدافئة، الذي كان الشاعر مسفر دقيقا أنيقاً في اختيار المفردة التي تحدث أكبر هزة وصدمة ومفاجأة في وجدان المتلقي، مما يكسب النص بعداً وجدانياً وفنياً مؤثراً ومثمراً على مستوى البناء والتركيب. فالنص عنده أفق مفتوح على الحب والشوق والرومانسية بفضاء يضج بالحركة والدهشة والرعشة الحلمية المرتكزة على أسس فلسفية ونفسية برؤية خاصة تعبر عن مسفر الشاعر كما في المقطع الشعري السردي التالي، حيث شخص المجرد «الأماني» بمونولوج داخلي متكئا على تقنية الفلاش باك باستحضار ذلك الاخضرار الممتد في ريف الذاكرة ووريف الآتي الذي لا يأتي فلنتأمل سويا بهذه اللغة الزاخرة والصور الشعرية الفاخرة: قلت للأماني اليابسه.. في سِدْرَة ايامي.. تعيش. قبل لا إنتِ تمطرين وزينتها من حلوى عيد الذكريات ولبّستها ثوب من شذى فأتى الخطاب للمجرد «الأماني» المتعلقة في «سدرة» أيامه كمعادل موضوعي للذات الساردة من خلال فعل الأمر «تعيش» كي تستعد لاخضرار المزهر المثمر، فهنا نجد كيف يرتب مسفر مونولوج داخلي للذات المتعطشة «قلت للأماني» وللغيمة المحملة بالمطر والعطر «قبل لا أنتِ تمطرين» وهنا تتضح تجليات المونولوج وتيار الوعي باستحضار الذكريات «من حلوى عيد الذكريات» «ولبّستها ثوب من شذى» فتتهاوى الأماني والانتظارات عبر انكسارات الذات الجمعية التي لا زالت تعلق فوانيس الخطاب في سماء الآخر الغائب. فاهتم الشاعر مسفر بتداخل الأنواع الأدبية في تجربته الشعرية وذلك بين السرد والشعر في العديد من نصوصه موظفا الدراما وأدواتها في خدمة النص ومعمقا البعد الرؤيوي في تجربته مثلما في هذا المقطع: وتسألني عن أخباري.. واخباري ربيع دايم بدا في موسم أمطارك فنجده هنا يتكئ على الزمان باعتبار أن الزمان أهم عناصر البناء السردي «ربيع، دايم، بدا، موسم» وهذا ما نلاحظه في نص «ماريا» حيث يتداخل الشعر بالسرد بتجلٍّ واضح مذيبا الفوارق بين الأجناس الأدبية برؤية شعرية فنية عالية، ومن العناصر المهمة التي تتميز بها تجربة الشاعر مسفر الدوسري - الصورة الشعرية، التي تمثل عنصرا فعالا في توهج النص من خلال مكوناتها «اللغة، العاطفة، الخيال» وإمكاناتها التعبيرية والجمالية وأنواعها «مفردة، مركبة، كلية» فالصورة الشعرية عند مسفر تُعبر عن مدى الرؤية للعالم الداخلي في ذاته حيث تتعدد فضاءات الصورة الشعرية ومصادرها مرجعيتها فنجده يتكئ على تبادل مجالات الإدراك حسية معنوية ووجدانية وتتراسل تلك الحواس فيما بينها لترسم الصورة في لوحات حالمة متنامية بين الوعي واللاوعي: من يوم تفارقنا أخذتِ كل شي.. أخضر معاك ولا تركتي لي وراك.. إلا التفاصيل النحيلة في يدي.. وبعض حكي.. أصفر ومن خلل هذه الحقول الدلالية وحمولتها الحسية، حيث يمتزج فيها الحسي بالذهني فكانت تلك التفاصيل «نحيله «محاصيل لا تسمن ولا تغني من جوع». وهنا يحيل الشاعر مسفر «الحكي» من حاسة السمع إلى حاسة البصر عن طريق تقنية اللون وإيحاءاته « أصفر» وتضاده مع «أخضر معاك» وفي اشتعال انفعالي حسي آخر يقول مسفر: يشعل شموع بحنيني يرسم أشجار ونوارس فوق سواحل.. في جبيني فأشعل المجرد «الحنين» بالحسي المادي «الشموع» فهنا احتراق وجداني فيزيائي، ثم ننتقل للصورة الشعرية الأخرى فأصبح «الجبين» لوحة يرسم بها أحلامه وآماله في انتظار الآتي الذي لا يأتي: وكل ليله من قبل أنام أوارب أطراف الهدب علّ وعسى يمرّني طيفك عَجِل لا من تعب فيك الزعل أو جفنه الصاحي غفا! فأكثر ما يشدنا في هذه الصورة الشعرية تشخيصه للمجرد «الزعل» بجرد آخر «تعب» الذي ينتجه عنه صورة شعرية متقدمة أخرى «يمرّني طيفك عَجِل». وفي الصورة الشعرية التالية نرى كيف وظف الشاعر مسفر «السهر» كثيمة يتكئ عليها النص وتتفرع دلالاته منه: من يقنع نْعاس عينك والخدر إني سهر على النوافذ أحتريك؟! فالصورة الأولى مجردة «من يقنع نْعاس عينك والخدر» كمحاولة أخيرة لإتمام لحظات للقاء، متجاوز بنا الدلالة الأصلية «السهر» بمسحة إيحائية تعبيرية، وانحراف لغوي جميل بصورة أكثر عمق وإيحاء وإبداع فالذات الشاعرة هنا هي «الساهر» بحد ذاته كمعادل نفسي وموضوعي للانتظار. فتتميز نصوص شعر مسفر بإتقان أسلوبي يمنح المتلقي مسافة من الدهشة ومساحة من الرعشة بسلاسة إيقاعية وجرس موسيقي، من تلك الصور الشعرية العميقة التي تزيد من ترابط النص وانسجامه النفسي والوجداني والجمالي: فنتأمل في قوله: أنا نفس المظلم اللى.. من عرفتك.. عيّت الشمس بضلوعي.. لا تنام! [email protected]