البارانويا هي عبارة عن هذاءات مرتبطة بالعظمة والاضطهاد؛ بحيث تكون حياة المصاب بها تحت عنوان (أنا عظيم.. أنا مضطهد). وكلمة Paranoia مكونة من جزءين: Para: وهي تعني مجانبة، وnoia وهي تعني العقل, ومعناها «مجانبة العقل»؛ لأن العمليات الذهنية تكون متخبطة، ولا تعطي نتائج صحيحة، إنما عبارة عن وساوس وشكوك لا صحة لها. وتتشكل حياة المصاب بجنون الارتياب «البارانويا» من صراع دائم ما بين «جنون العظمة» وتوهُم الأفضلية والأحقية والفرادة، و»جنون الاضطهاد» وتوَهُّم وجود أعداء يتربصون به بسبب أفضليته عليهم. مرضى البارانويا يبدون طبيعيين جداً ومنطقيين جداً في طرح قضاياهم الاضطهادية؛ لأن المرض ليس عقلياً إنما هو مكتسب - حسب بعض المحللين - والأفكار تبدأ بالتكوُّن منذ الصغر عن طريق الآباء، وتكتسب متانة ومنطقية مع مرور الوقت؛ لهذا يسوق المصاب لك أدلة على مظلوميته تكاد تكون حقيقية جداً. لهذا - أيضاً - يصعب أن يوجد «بارانويد مصاب بالبارانويا» في مجتمع أصحاء، والعكس صحيح. أي أن المرض متفشٍ، ويصيب عائلات بأسرها بل مجتمعات، حتى أن المحلل النفسي فرويد يعتقد أن اليهود بمجملهم مصابون بالبارانويا؛ لهذا يتوهمون أنهم مضطهدون من جميع العالم، ومن جهة أخرى يرون أنفسهم «شعب الله المختار» إنها قُطبا البارانويا: «الاضطهاد» و»العظمة». تبدأ الضلالات الاضطهادية بالنشوء في سن مبكرة, وغالباً يستقيها الأطفال من آبائهم؛ بحيث تقوم تنشئة الطفل وبناء قناعاته على أنه فريد، وله تاريخ عريق من الأفضلية، وأنه مستهدف من الجميع بسبب ذلك؛ فينشأ الطفل متذمراً وحزيناً ومنعزلاً عن الناس، ويعيش في شبكة من الشكوك في الآخر الذي لا يبادله الثقة أبداً، ثم مع تقدم العمر تصبح الضلالات والوساوس أكثر متانة، وتبدأ مشاعر العظمة بالظهور؛ فيعيش الشخص صراعاً مريراً ما بين شعوره بالتميز والتفوق وما بين اضطهاد الآخرين له. المصاب بالبارانويا كالقنبلة الموقوتة؛ لأن فكرة «المظلومية» التي نشأ عليها وعشعشت داخله تولد لديه رغبة عارمة في الثورة والتدمير وقلب الأوضاع والخيانة؛ بحيث تتناوب عليه مشاعر الضعف ومظاهر العنف؛ فتخلّفه إنساناً متوتراً ثائراً ومستعداً لتبني أي قضية تخريب وفوضى بأسماء منطقية كالمطالبة بالحقوق ومجابهة الظالم - العدو، الذي هو غالباً عدوٌ وهميٌ، أو عدوٌ هو صنعه بنفسه!.. هناك طوائف وجماعات بأسرها تكوَّنَ موروثهم الثقافي على أساس فكرة المظلومية والاضطهاد؛ لذا تجدهم متوجسين وقلقين، ويفسرون أي تقصير أو خطأ أو بلاء من ابتلاءات الحياة التي قد يتعرض لها أي شخص آخر على أنها شخصية ومتعمدة وموجهة إليهم بالذات بسبب تفوقهم، تماما كما وصف الله في محكم كتابه: {يحسبون كل صيحة عليهم}. المصابون بجنون الاضطهاد موجودون في كل مكان، قد يكون المصاب زميلك في العمل, أو طالبك في المدرسة, أو مديرك, أو أخاك أو جارك.. وسوف يكون التعامل معه صعباً جداً؛ لأنه يفترض بك أن تكون حذراً في تصرفاتك لئلا يفسرها على أنها نوع من الاضطهاد؛ فهو سيحاول أن يبدو ودوداً ومضيافاً ومتفهماً إلى أن يشعر بالشك تجاهك. احذر ذلك؛ لأنه سيتحول إلى قنبلة مدمرة. التصرف الأول (المثالية) والكمال يغذي لديهم الشعور بالعظمة، والتصرف الآخر: (الثورة والانفجار) تغذيها مشاعر الاضطهاد. وهناك أشخاص أجادوا استغلال هذا المرض في مجموعات معينة في المجتمع البشري، عن طريق دغدغة مشاعر المظلومية لديهم فقاموا بتأجيج نارَيْ: العظمة والاضطهاد، ومن ثم استغلالهم في صناعة الفوضى والثورات والانقلابات على مر التاريخ!.. الحل: هو لحظة واحدة من مواجهة الذات، لحظة اكتشاف الحقيقة.. لحظة أن يسمعوا داخلهم صوت الحقيقة: «أنت بشر عادي، ولا يوجد أعداء يتربصون بك». ستكون لحظة إشراقة باهرة، وسوف ينظرون للماضي على أنه بِرْكة وَحْل كانوا غائصين فيها حتى الرأس! بِرْكةٌ من البكاء والأحزان والتوجس والكراهية والأحقاد.. بعدها سوف يتجهون للعمل بجد لصناعة مستقبلهم بالجد والعمل وتقبل وقائع الأحداث السيئة التي تحصل لكل مخلوق على أنها عثرة يجب تجاوزها. انظر من حولك.. اكتشاف المصابين بالبارانويا سهل للغاية: إن وجدت من يكرر على أسماعك أمجاده وقدراته الخارقة وأقواله وأفعاله وهبات الله له وتميزه عن بقية الخلق - مثل وجود البترول في أرضه أو كون أرضه خصبة - ومن ثم يغيّر الموجة الثانية: بأن الآخرين يكرهونه ويضطهدونه بسبب ما يتميز به.. اعلم وقتئذ أنك تجالس مريضاً بالاضطهاد.. (يتبع في المقال القادم) [email protected]