كان هناك رجلٌ فقيرٌ تزوج من امرأة وأنجبا طفلاً، فقرر الرجل السفر لطلب العيش، فاتفق مع امرأته على عشرين عامًا من السفر، وإذا زادت يومًا واحدًا فإن المرأة حرة طليقة تفعل ما تشاء. وعدته زوجته بذلك فسافر وتركها وولده الذي لم يبلغ شهرًا واحدًا. سافر إلى إحدى البلدان، حيث عمل في طاحونة قمح لدى رجل طيب وسر منه صاحب الطاحونة لنشاطه. وبعد عشرين عامًا قال لصاحب الطاحونة: «لقد قررت العودة إلى البيت؛ لأنَّ امرأتي وعدتني بأن تنتظرني عشرين عامًا وأريد أن أرى ما الذي يجري هناك. فقال له صاحب الطاحونة: «اشتغل عندي عامًا آخر أرجوك فقد تعوَّدت عليك كما يتعوَّد الأب على ابنه، لكن الرجل قال: «لا استطيع لقد طلبت الدار أهلها وحان الوقت كي أعود، فقد مضى على غيابي عشرون سنة، وإذا لم أعد إلى البيت هذا العام ستتركني زوجتي». فأعطاه صاحب الطاحونة ثلاث قطع ذهبية وقال له: «هذا كل ما أملك. خذها فهي ليست بكثيرة عليك». أخذ الرجل القطع الذهبية الثلاث واتجه نحو قريته. وفي طريقه إلى القرية لحق به ثلاثة من المارة. كان اثنان من الشباب والثالث رجل عجوز. تعارفوا وبدؤوا بالحديث بينما الرجل العجوز لم يتكلَّم ولو بكلمة، بل كان ينظر إلى العصافير ويضحك. فسأل الرجل: «من هذا الرجل العجوز؟» أجاب الشابان: «إنه والدنا». قال الر جل: «لماذا يضحك هكذا؟» أجاب الشابان: «إنه يعرف لغة الطيور وينصت إلى نقاشها المسلي والمرح». فسأل الرجل: «لماذا لا يتكلَّم أبدًا؟». أجاب الشابان: «لأن كل كلمة من كلامه لها قيمة نقدية». قال الرجل: «وكم يأخذ؟». أجاب الشابان: «يأخذ قطعة ذهبية مقابل كل جملة». فتساءل الرجل في نفسه: «إنني إنسان فقير هل سأصبح أشد فقرًا؟ إذا ما أعطيت هذا العجوز قطعة ذهبية واحدة كفاني اسمع ما يقول». فأخرج من جيبه قطعة ذهبية ومدها إلى العجوز. فقال العجوز: «لا تدخل في النهر العاصف وصمت». وتابعوا مسيرتهم. قال الرجل في نفسه: «عجوز فظيع يعرف لغة الطيور ومقابل كلمتين أو ثلاثة يأخذ قطعة ذهبية. ترى ماذا سيقول لي لو أعطيته القطعة الثانية؟». ومرة أخرى تسللت يده إلى جيبه وأخرج القطعة الذهبية الثانية وأعطاها للعجوز. قال العجوز عندها: «في الوقت الذي ترى فيه نسورًا تحوم اذهب وأعرف ما الذي يجري؟». وصمت وتابعوا مسيرتهم. وقال الرجل في نفسه: «اسمعوا إلى ماذا يقول. كم من مرة رأيت نسورًا تحوم ولم أتوقف ولو لمرة لأعرف ما المشكلة؟! سأعطي هذا العجوز القطعة الثالثة، بهذه القطعة ومن دونها ستسير الأحوال». وللمرة الثالثة تتسلل يده إلى جيبه وأمسك بالقطعة الأخيرة وأعطاها للعجوز. أخذ العجوز القطعة الذهبية وقال: «قبل أن تقدم على فعل أي شيء عد في عقلك حتَّى خمسة وعشرين» وصمت. وتابع الجميع المسير ثمَّ ودعوا بعضهم وافترقوا. وعاد العامل إلى قريته، وفي الطريق وصل إلى حافة نهر وكان النهر يعصف ويجر في تياره الأغصان والأشجار وتذكر الرجل أول نصيحة أعطاها العجوز له ولم يحاول دخول النهر. جلس على ضفة النهر وأخرج من حقيبته خبزًا وبدأ يأكل. وفي هذه اللحظات سمع صوتًا وإذ به يرى فارسًا وحصانًا أبيض. قال الفارس: «لماذا لا تعبر النهر؟» أجاب الرجل: «لا استطيع أن أعبر هذا النهر الهائج فرد عليه الفارس: «انظر إلي كيف سأعبر هذا النهر البسيط وما أن دخل الحصان النهر حتَّى جرفه التيار مع فارسه. كانت الدوامات تدور بهم وغرق الفارس. أما الحصان فقد تابع السباحة من حيث نزل، وكانت أرجله تشر ماء. أمسك الرجل الحصان وركبه وبدأ البحث عن جسر للعبور. ولما وجدة عبر إلى الضفة المقابلة ثمَّ اتجه نحو قريته. ولما كان يمر بالقرب من شجيرات كثيفة رأي ثلاثة نسور كبيرة تحوم. قال الرجل في نفسه: «سأرى ماذا هناك، ترجل عن الحصان واختفى بين الأشجار وهناك رأى ثلاث جثث هامدة وبالقرب منها حقيبة من الجلد. ولما فتحها وجدها مليئة بالقطع الذهبية. كانت الجثث لقطاع طرق سرقوا في أثناء الليل أحد المارة ثمَّ جاؤوا إلى هنا ليتقاسموا الغنيمة فيما بينهم ولكنهم اختلفوا في الأمر وقتلوا بعضهم بعضًا بالمسدسات. أخذ الرجل النقود ووضع على جنبه إحدى المسدسات وتابع سيره. وفي المساء وصل إلى بيته وفتح الباب الخارجي ووصل إلى ساحة الدار وقال في نفسه: «سأنظر من النافذة لأرى ماذا تفعل زوجتي؟». كانت النافذة مفتوحة والغرفة مضاءة. نظر من الشباك فرأي طاولة وسط الغرفة وقد غطتها المأكولات وجلس إليها اثنان الزَّوجة ورجل لم يعرفه كان ظهره للشباك. فارتعد من هول المفاجأة وقال في نفسه: «أيتها الخائنة لقد أقسمت لي بألا تتزوجي غيري وتنتظريني حتَّى أعود، والآن تعيشين في بيتي وتخونيني مع رجل آخر!» أمسك على قبضة مسدسه وصوب داخل البيت ولكنه تذكر نصيحة العجوز الثالثة أن يعد حتَّى خمسة وعشرين. قال الرجل في نفسه: «سأعد حتَّى خمسة وعشرين وبعد ذلك سأطلق النار وبدأ بالعد. في هذه الأثناء كان الفتى يتحدث مع الزَّوجة ويقول: «يا والدتي سأذهب غدًا في هذا العالم الواسع لأبحث عن والدي. يصعب أن أعيش بدونه يا أمي». ثم سأل: «كم سنة مرَّت على ذهابه؟» أجابت الأم: «عشرون سنة يا ولدي. عندما سافر أبوك كان عمرك شهرًا واحدًا فقط». ندم الرجل وقال في نفسه: «لو لم أعد لارتكبت مصيبة وتعذبت عليها أبد الدهر وصاح من النافذة: «يا ولدي. يا زوجتي. أخرجوا واستقبلوا الضيف الذي طالما انتظرتموه.