تجربة الدولة الكوبية مع الأداء الطبي عموماً ومع مرض نقص المناعة المكتسب (الإيدز) خصوصاً تستحق الإعجاب اللا محدود، وتطرح عدة استنتاجات عن معايير الكفاءة في السياسات الطبية. أبسط استنتاج يفرض نفسه بالضرورة هو عدم ارتباط أداء النظام الصحي في أي بلد بكميات الأموال المرصودة في الميزانية ولا بحداثة التجهيزات الطبية والمباني وصالات الاستقبال. نجاح كوبا المتميّز على مستوى العالم في الرعاية الطبية يقول العكس. كلما كانت النقود كثيرة والبهرجات الهندسية والتجهيزية في المرافق الطبية من الأولويات يصبح من المتوقع أكثر دخول التسرّبات وضبابية الرقابة والإهدار المالي على الخطوط والمسالك في الأنظمة الصحية، وبالتالي وقوع الأداء الصحي العام ضحية لوحش البيروقراطية ذي السبعين ذراعاً وذراعاً. هذا الواقع تشتكي منه دول العالم الأول التي هي أمريكا وكندا أوروبا، قبل أن تشتكي منه دول العالم الثاني والثالث، لأن هذه الأخيرة تشتكي من أشياء كثيرة، وما الأداء الطبي سوى واحد منها. كوبا دولة بحرية صغيرة تقع جنوب شرق لسان ولاية فلوريدا الأمريكية، فقيرة في معظم الثروات الطبيعية ما عدا الزراعة وصيد الأسماك، ومحاصرة سياسياً وبالذات في مجال استيراد التقنية الحديثة من قِبل الولاياتالمتحدةالأمريكية ومعظم الدول الغربية بسبب نظامها المعاند لسياسات الغرب. في عام 1983م مرَّ الرئيس الكوبي كاسترو في زيارة تفقدية على معهد بيدروخوري، أكبر مستشفى للأمراض الاستوائية والمعدية في كوبا، واستمع إلى محاضرة عن الملاريا. بعد انتهاء المحاضرة توجه كاسترو إلى مدير المعهد بهذا السؤال: جوستافو.. ماذا سوف تعملون لإبقاء الإيدز بعيداً عن كوبا؟ آنذاك كان مرض الإيدز لا يزال سراً من الأسرار الطبية الكبرى لا تُعرف أسبابه ولا تُوجد له أية وسائل علاجية. أجاب الطبيب جوستافو: أيها القائد، لا يعرف أحد ما هو الإيدز بالضبط ولم تنشر سوى تقارير محدودة عن حالات قليلة في أمريكا وأوروبا. رد عليه كاسترو: أعتقد أنه سوف يصبح طاعون القرن وإنها لمسؤوليتك يا جوستافو أن تمنع الإيدز من أن يصبح مشكلة كبيرة هنا. كانت أول خطوة قام بها المعهد هي الدعوة إلى جمعية عمومية لطاقمه الطبي والفني والتمريضي، ثم قاموا بإتلاف عشرين ألف عبوة من الدم ومشتقاته كانت في مستودعاتهم لعدم تأكدهم من سلامتها. هذه الخطوة وحدها أنقذت كوبا من صدمة الإيدز الأولى التي حدثت في كل دول العالم عندما أصيب الآلاف من مرضى النزاف الوراثي (الهيموفيليا أو الناعورة) بالإيدز نتيجة نقل الدم الملوّث إليهم. الخطوات التالية التي طبّقها النظام الصحي الكوبي بعد ذلك وحتى اليوم كانت صارمة ودقيقة وعلمية إلى أقصى الحدود بالرغم من أن تكاليفها المادية كانت أقل من علاج بضع مئات من المرضى بالإيدز على الطريقة الغربية. يستطيع المهتم بتفاصيل الخطة الكوبية لمحاصرة الإيدز الحصول عليها من الشبكة العنكبوتية. الأرقام التالية تضع القارئ في الصورة الصحيحة عن نجاح الخطة الكوبية: 1 - عدد سكان كوبا بالكامل يعادل تقريباً سكان مدينة نيويوركالأمريكية. خلال الثلاثة العقود الماضية توفي في نيويورك قرابة ثمانين ألف شخص بمرض الإيدز، أما في كوبا كلها فلم يتوف سوى ألفين وخمس مائة مصاب. 2 - في الولاياتالمتحدةالأمريكية ذات الجهاز الطبي الهائل يسجل سنوياً خمسون ألف حالة إيدز جديدة، ويعتقد أن الحالات التي تتسرّب من التسجيل لعدم كفاءة نظام الرصد والرقابة لا يقل عن ذلك، وانتقال الفيروس من الأمهات المصابات إلى الأجنة يعد بالآلاف سنوياً. في كوبا لم يولد منذ عام 1986م حتى نهاية 2011م سوى ثمانية وثلاثين طفلاً يحملون فيروس الإيدز. 3 - تمر الأم الحامل في كوبا باثني عشر فحصاً طبياً لمتابعة الحمل وفي كل زيارة يتم التحليل ضمنياً عن فيروس الإيدز. في بقية دول العالم لا يتعدى المتوسط لمتابعة الحمل ثلاث مرات، وأحياناً يبلغ صفراً واحداً. أثبتت كوبا الفقيرة أن العزم والتخطيط الجيد أكثر فعالية من صرف الأموال.