كثر في العصر الحديث إذا ما بلغ الشاعر سن السبعين أن ينفح قراء الشعر قصيدة بهذه المناسبة، يجعل فيها جماع تجربته منذ أن قرض الشعر إلى هذه المرحلة العمرية التي يرى فيها أنه نضج مكتملاً شعراً وتجربة حياة، أو يبث فيها معاناته وأشجانه، وأنه آن له أن يترجل ويستريح من عناء السنين وما حمل خلالها من هموم الأدب ومساراته، أو ما تعانيه الأمة من مشكلات وما تلاقيه من سهام الأعداء وتحدياتهم التي لا تسكن مع الإشادة بماضيها وما كانت عليه من المجد والسؤدد وأمنيات العودة لهذا الماضي المشرق، ومن عدم فهم المجتمع أو بعض الأصدقاء لرسالته التي يتبناها. ذلك كان منهج أكثر من كتب قصيدة السبعين، ولن أكثر من النماذج فأمامي قصيدة الشيخ عبد العزيز الرفاعي، وقصيدة الدكتور غازي القصيبي -رحمهما الله- فالشيخ الرفاعي بتواضعه الجم لا يعد نفسه أنه قد أعطى للأدب شيئاً يُذكر، وخميسيته الذائعة الصيت تشهد بأنه قد أثرى بها ساحة الأدب والشعر المعاصر لأكثر من ثلث قرن وقصدها القاصي والداني فكانت شامة في جبين الرياض لا تدانيها أية ندوة أدبية أخرى معاصرة -إلا ما قيل عن ندوة الشيخ عبد المقصود خوجة- وفيها الحنين للأصحاب وقد فرقهم الزمن بين بعيد أو مغيب بالموت، يقول الشيخ الرفاعي في قصيدته «سبعون»: سبْعونَ يا صَحْبي، وجَلَّ مُصابُ سبعونَ يا للهوْلِ أيَّةُ حقبةٍ سبعونَ ظَنَّ أَحبَّتي أني يها أنا مَنْ بَنَيْتُ عَلى الخَيالِ قَوَاعِدِي إنِّي لدى التعريفِ رُبْعُ مثَقَّفٍ ولدى الشَّدائدِ تُعْرفُ الأصحابُ طالَتْ، ورَانَ على الرَّحيقِ الصَّابُ أُعْلي القِبابَ، وما هُناكَ قِبَابُ فتَصَدَّعَتْ وانْهارتِ الأطْنابُ صَحِبَ الكتابَ فلَمْ يَخُنْهُ كِتابُ وأما الدكتور غازي القصيبي فأنكر نفسه لما بلغ السبعين، لأنه شعر بالضعف بعد القوة، وبالهرم بعد الشباب، وبدنو الأجل.. ربما هذا الإحساس لمعاناته من المرض، فقال: ماذا تريدُ من السبعينَ.. يا رجلُ؟! لا أنتَ أنتَ.. ولا أيامك الأُولُ جاءتك حاسرةَ الأنيابِ.. كالحَةً كأنّما هي وجهٌ سَلَّه الأجلُ أوّاه! سيدتي السبعونَ! معذرةً إذا التقينا ولم يعصفْ بيَ الجَذَلُ قد كنتُ أحسبُ أنَّ الدربَ منقطعٌ وأنَّني قبلَ لقيانا سأرتحلُ وهكذا كان اليأس قد أخذ منه كل مأخذ متندماً على الشباب وعلى فقد الأصحاب لكنه كان ممتلئ النفس بالإيمان راضياً بقضاء الله ممتثلاً لمشيئته: تباركَ اللهُ! قد شاءتْ إرادتُه ليَ البقاءَ.. فهذا العبدُ ممتثلُ! واللهُ يعلمُ ما يلقى.. وفي يدِه أودعتُ نفسي.. وفيه وحدَه الأملُ فهذا السبيل لكلا الشاعرين من استعجال الموت نهى عنه أهل العلم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي». ويختلف عن الشاعرين الرفاعي والقصيبي الدكتور وجيه البارودي شاعر حماة الذي كان له نهج آخر، فقد شعر أنه لما بلغ السبعين وهو صحيح معافى أنه بهذا قهر الزمن وتحداه بما امتلك من صحة ونشاط، فجاء في قصيدته التي ألقاها بهذه المناسبة: تقادم العهد لا يسري علي كما يسري على الناس إني قاهر زمني فكان علماني المعتقد بعيداً عن فهم المنهج الإسلامي بأن الله تعالى قد حدد الأعمار؛ بل إنه تعالى قد حدد لكل جنس من مخلوقاته سنين من العمر لا يتعدونها إلا نادراً، وأن الإنسان إذا تجاوز الحوادث والأمراض القاتلة فإن الهرم أو الشيخوخة هي التي ستقضي عليه مع فارق مدتها بين شخص وآخر. بيد أن الدكتور وجيه البارودي الذي اشتهر بأنه طبيب الفقراء، حيث يداويهم دون مقابل مادي حتى في بيوتهم عندما تستدعي الحاجة حضوره، ولعل دعوة مخلصة من أحدهم أصابته فنزع عباءة العلمانية وتوجه في شتاء عمره للحج فأدى هذه الفريضة قبل أن يلقى ربه عن عمر ناهز التسعين عاماً. أما قصيدة «سبعون» للدكتور عبد العزيز خوجة فتختلف في مسارها عن النماذج التي قدمناها، فهي بوح نفسي وتفريغ لهموم أثقلت صاحبها ولجوء إلى من بيده العفو والصفح عما سلف من أخطاء -وابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون- ولا غرو في هذا البوح وقد نهج هذا المنهج عدد من الشعراء خصوصاً المتصوفة منهم كالبوصيري وابن الفارض والسهروردي وابن الخيمي.. وقد تكون القصيدة النموذج المصغر لرباعيات الخيام التي انتهت بالتوبة الصادقة ورجاء العفو من الخالق الحكيم. يمكن لنا أن نجد في قصيدة الدكتور خوجة المحاور التالية: - النفس الراضية بما قدر الله وكتبه مع طلب العفو والصفح عما سلف. إنّي لقيتُك يا سبعونَ مبتسماً لم أَشْك من نَصَب قد مرّ بي حِقبا لم يبقَ لي غيرُ عفو الله أطْلبه وكلّ ما حلّ بي كربٌ على أُفُقي راضٍ بما قد مضى راضٍ بما قُسَما وما بكيتُ على عُمرٍ قد انصرما ورحمةً منه أرجوها ومعتصَما أدعوه يُذهب عنّي الكربَ والسَّقما - مسيرة الحياة للإنسان لا تخلو من صواب وزلل، مع يقظة القلب في السبعين وطلب الصفح، وانكسار صبوته وخمود نار غرامه.. أوَاه كم حَمَلتْ سبعون من زللٍ ربّاه إني على الأبواب ملتجئٌ لم يبقَ في القلب لا ليلى ولا رغدٌ كم يرحمُ اللهُ مِنْ ذَنبٍ وإنْ عظما مالي سواك تقبَّل عبدَك الهرِما أمّا روانٌ فما راعتْ لنا ذِمَما - اتهام النفس الأمارة بميلها بصاحبها إلى الهوى, والهروب من هذا الماضي المزري بصاحبه ونسيانه. إنّي سهَرتُ الليالي في الهوى أَثِماً أكلّما قلتُ أَنسى صِرتُ أذكرهُ كأنه في خلايا القلب مسكنُه وكلّما طاب جرْحٌ نزّ إخوتُه أصدّقُ الزيفَ وعداً كان أو قَسَما وصاح شوقٌ قديمٌ فزّ واضطرما أهواهُ إنْ عدلا، أهواهُ إن ظَلَما وثار جَرح جديدٌ غار ما الْتَأما - الاغترار بالعلم ولوم النفس على هذا المسلك، فالسير وراء السراب جهل. قد كنتُ، كم كنتُ مغروراً بمعرفتي ما كنتُ أعلم أن الدربَ خادعةٌ إن الذي خلتُه في القفر ملتجأً حتى حَسِبت بأنّي أبلغُ القِمما حتى إذا أومأتْ سِرنا لها قُدُما كان السرابَ وكان الجَدبَ والعَدما - مزالق الهوى وسجل الحياة المخيف الذي كدرته الشوائب مدون في سجل الله. يا حاديَ الوهم كم زلّت بنا قدمٌ سبعون مرّتْ بما فيها كثانيةٍ لكنّها في سجلِّ الله قد كُتبتْ وكنت أحسب أني أَبلغُ السُّدُما أوراقُها سقطتْ والغصنُ ما سَلِما أَحصى دقائقَها ما جدّ أو قَدُما لكن شاعرنا نسي أن الحسنات يذهبن السيئات (يمح الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب)، فالتوبة النصوح تجب ما سبق من وزر خلا أوزار أكل المال وسفك الدم. - الخوف والرجاء بالندم عما سلف باللجوء إلى الله طالباً العفو والصفح منه. إنّي أتيتك يا ربّاه من ظُلَمٍ إنّي اعترفت فهبْ لي منك مغفرةً أرجو مِنْ الله يمحو كلّ معصية ثم الصلاة على الهادي وعُتْرته أرجو بنورك أن تُجلي ليَ الظُلما أنت الحليمُ على من ضلَّ أو أَثِما ويقبلُ الله عبداً تاب أو نَدِما والآلِ والصّحب من أهْدوا لنا القِيمَا الالتجاء إلى الله بنفس منكسرة تبدي التوبة والندم في ذل وخضوع لله تقرب التائب من ربه وتغسل أدران المعصية، فما أروع النفس التي تؤوب إلى الخالق وتنضوي تحت جناح الرحمة راجية مستغفرة، والله هو الغفور الرحيم لا يرد عبداً قصده، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ أرى أن هذه القصيدة تحمل رسالة لكل مسلم في مراجعة النفس والتوجه إلى الله بالتوبة والعمل الصالح، فالأمور بخواتيمها، وقد جاءت من رجل كبير في منصبه ندي في شعره وما منعه هذا من ذرف دموع التوبة والانكسار أمام خالقه وبارئه ليعلن أنه الفارّ إلى الله الهاجر للذنوب الراجي عفو ربه..ويبقى أن القصيدة أدبية رائعة، انسيابية سلسة بأسلوب سهل ومن شاعر متمكن.