أبو بدر حمد القاضي رجل مبارك، لا تخلو مقالاته - رغم قصرها - من لمسات وفاء ومحبة، وكثيراً ما تكشف مقالاته عن سمو معدنه وصفاء قلبه ومحبته الخير للجميع، وقد أتحفنا قبل بضعة أيام بمقال حرّك فيه الراكد في جامعة أم القرى عندما أشار فيه إلى خطاب سابق قد بعثه لمعالي مدير الجامعة يستحثه فيه على تكريم ابن الجامعة العلامة البحاثة في التراث د.عبدالرحمن بن سليمان العثيمين (أبو سليمان)، الذي غادر الجامعة متقاعداً بصمت لا ينبغي لمثله، وقد أظهر أبو بدر بعض العتب على مدير الجامعة لعدم اهتمامه بمقترحه لتكريم هذا الرجل، ويحمد لمدير الجامعة أنه خرج عن صمته واستجاب استجابة طيبة يشكر عليها. وقد ذكرني أبو بدر بخطاب بعثته قبل قرابة 20 سنة لمعالي مدير الجامعة وقتها حول الدكتور عبدالرحمن العثيمين - أيضاً - ولم أخبر أبا سليمان عن هذا الخطاب وأطلعه عليه إلا بعد سنين، وسأفصل الحديث عن مضمون خطابي هذا، إن سمح حيّز المقال، مع أن خطابي تم حفظه وتجاهله وعدم الاستجابة لما ورد فيه، ويحمد لأبي بدر القاضي أنه حرّك بعض محبي أبي سليمان العثيمين في تويتر، فنفحوه بعدد من التغريدات الجميلة التي تنبض بالحب والوفاء، وقد تساءل بعض المتابعين عن أبي سليمان ومن يكون؟ كي يحظى بهذا الاهتمام والحب، ونظراً لصلتي به منذ ثلث قرن تقريباً إلى اليوم وقربي منه أحببت أن أكتب عنه من الذاكرة - دون أن أخبره - نبذة موجزة لتعريف القراء به، فهو ابن عم الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - تميمي عنيزي (من عنيزة)، ومن حيث الدراسة والتخصص خريج كلية اللغة العربية بالرياض (التابعة لجامعة الإمام) عام (1391-1390ه) وقد سبقني في التخرج بعامين، ثم عمل مدرساً في جدة، ثم انتقل للعمل معيداً في جامعة أم القرى وأظنه بطلب من الدكتور راشد الراجح، وحصل منها على درجتي الماجستير والدكتوراه، وكان موضوع بحثه في الماجستير تحقيق كتاب: (التبيين في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) لأبي البقاء العكبري، وموضوع الدكتوراه تحقيق كتاب: (التخمير في شرح المفصل) للخوارزمي، وقد ظهر علم أبي سليمان وإبداعه في تحقيق هذا الكتاب وفي الدراسة التي كتبها في بدايته، وكل الذين عملوا في شروح المفصل بعده استفادوا من دراسته هذه. وقد طبع الكتابان في دار الغرب الإسلامي قبل عام (1410ه -1990م) ثم أعادت طبعهما مع سبعة كتب أخرى لأبي سليمان مكتبة العبيكان بالرياض، وقد حصل على الدكتوراه عام 1402ه أي قبل واحد وثلاثين عاماً، وعيّن على وظيفة أستاذ مساعد، واستمر عليها حتى تقاعد دون أن يترقى، بينما ترقى عدد من طلابه إلى درجة أستاذ مشارك ثم أستاذ، وهو مصرّ على البقاء على رتبته رغبة وفلسفة وليس عجزاً، فله من الكتب والبحوث المطبوعة في تخصصه ما يرقّيه وزيادة، كما أنه قادر على أن يكتب أضعافها ولكنه أبى أن يتقدم للترقية، وحجته وفلسفته أن العلم لا تطلب به الدنيا، وأن بركته وثمرته تضعف أو تضمحل إذا طلبت به الدنيا، وكم حاولت وحاول غيري إقناعه ولكن دون جدوى، وهذا الموضوع هو مضمون خطابي - المشار إليه - لمعالي مدير الجامعة قبل عشرين عاماً تقريباً، فقد ذكرفيه لمعاليه أن الجامعات والمؤسسات العلمية وغيرها تبحث عن النابهين والنابغين لتكريمهم وهم ليسوا من أبنائها ولا من بلادها، وقد يرفع إنتاجهم من قبل جهات لا يعرفونها ولم تستأذنهم كما يحصل في الترشيح لجائزة الملك فيصل العالمية وغيرها، ولا ريب بأن ابن الجامعة أولى بالتكريم من غيره عندما يكون أهلا لهذا التكريم، والترقية حق وليست تكريما، فعندما يوجد في الجامعة حالة نادرة كأبي سليمان تقبل الترقية دون أن تطلبها كحال ابن عمه الشيخ العلامة محمد العثيمين فلم يتقدم للترقية وانبرى طلابه ومحبوه فقدموا إنتاجه للمجلس العلمي بتوجيه من عميد كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم وتمت ترقيته مع أنه بعلمه ومكانته أكبر من هذه الدرجة، فكنت أطمع أن يتم لأبي سليمان في جامعته ما تم لابن عمه في كليته، لكنه لم يحصل بكل أسف مع أنني قد ملأت خطابي بالحجج والبراهين والنماذج واتصلت بالمدير شخصيا وتأكدت من تسلمه للخطاب. وضمن فلسفة أبي سليمان هذه في رفضه للترقية رفضه أيضا الاستجابة لجهة علمية كويتية طلبت منه إرسال نسخة من مؤلفاته لمنحه جائزة علمية رشحوه لها. وقد انصرف أبو سليمان من النحو - ولم يتركه نهائياً - إلى طبقات الحنابلة، وأخرج عدداً من كتبهم وأبدع في تحقيقها غاية الإبداع (وقد طبعت عند العبيكان)، ولا أظن كُتب الرجال في أي مذهب قد خُدمت كما خدم أبو سليمان طبقات الحنابلة، كما أنه كانت له عناية بموطأ الإمام مالك وحقق ثلاثة من الكتب التي عنيت بغريب الموطأ، وهي مطبوعة عند العبيكان، كما كانت له عناية بالأدب والشعر العربي رواية وحفظاً كالمعلقات وغيرها من عيون الشعر الجاهلي والإسلامي، وله عناية بالتاريخ الإسلامي وتاريخ المملكة الحديث وعلم الأنساب، ويعد موسوعة في الشعر العامي الحديث المرتبط بتاريخ المملكة وحوادثها، وذاكرته في هذا تذكرني بذاكرة والده سليمان -رحمه الله- فقد سمعت منه عدداً من القصص والأخبار بأشعارها، وطار معظمها من الذاكرة، وكلما قابلته واستعدتها منه أعادها - رحمه الله - وكأنه يقرأ من كتاب، وهكذا أبو سليمان حفظه الله ومتّعه بالصحة والعافية، وأعاده من مصحته العلاجية في ميونخ سليماً معافى. ولي معه ذكريات ورحلات داخلية وخارجية منها: مصر وتركيا والكويت والشارقة وغيرها، وفيها الكثير من أسرار معاناته وشغفه بالمخطوطات، وشهدت الكثير من تقدير العلماء الكبار له وإشارتهم إلى استفادتهم منه، ومنهم:، الشيخ حمد الجاسر، ود. محمود شاكر، ود.محمد عبد الخالق عضيمة، ود. الحبيب الخوجة، والشيخ بكر أبو زيد وغيرهم، فقد كان الشيخ حمد الجاسر يجلسه في الكرسي المجاور له، ويقول له: لا أحد أحق بهذا المكان منك وإياك أن تؤثر به أحداً؛ لأن أغلب من يزورونني يستفيدون مني أما أنت فأنا أستفيد منك، وقد أثنى عليه الشيخ حمد - رحمه الله - في مقالة كتبها في جريدة الجزيرة حول كتاب (السحب الوابلة) وذكره بعبارات إطراء وثناء غير معتادة من الشيخ؛ لأن الشيخ دقيق في عباراته يزنها بميزان الذهب ولا يجود بها اعتباطاً، وأما الشيخ محمود شاكر (أبو فهر) فقد كان يجله ويعجب به، مع أن الشيخ صعب وحاد وقليل من يعجبه -رحمه الله-، وكان كثيراً ما يقيم مأدبة على شرف أبي سليمان ويدعو لها نخبة من العلماء والأدباء، وكان أبو سليمان إذا وصل القاهرة يبدأ ببيت الشيخ محمود قبل أن يذهب للفندق، وكنت معه مرتين، ومعنا في إحداهما الشيخ الدكتور فهد العبيكان، وفي إحدى المرات كانت الجلسة عامرة بلفيف من كبار العلماء والأدباء في مصر من محبي الشيخ أبي فهر ومن تلاميذه الكبار، وتحدث الأستاذ الدكتور حسين نصار الأديب واللغوي الكبير عن كتاب جديد فرغ من تحقيقه واستفرغ الجهد في جمع نسخه المخطوطة، ولما فرغ قال له أبو سليمان يبدو أنك يا دكتور قد أغفلت نسخة مهمة لم تذكرها ولم تطلع عليها، فانفعل د.حسين واستكثر هذا الكلام من دكتور سعودي في مقام طلابه - ولم يكن يعرفه - وقال: مستحيل، لقد نخلت فهارس المخطوطات وسافرت ولم أجد غير هذه النسخ، فقال أبو سليمان: ولكن النسخة التي تركتها قريبة منك جداً ولا تحتاج إلى سفر، وهي في مكتبة الكليات الأزهرية، ورقمها - إن لم تخني الذاكرة - كذا، فقال د.حسين: (مش ممكن) بانفعال، عندها تدخل الشيخ محمود وقال: يا حسين: اسكت، يبدو أنك لم تعرف من المتحدث؟ هذا أبو سليمان حجة المخطوطات، اذهب غداً وانظر ما قال، ثم أخبرنا بالنتيجة. كنت ألحظ أحياناً أن بعض جلساء أبي فهر وهم من الكبار ربما غاروا من أبي سليمان، لما يرون من تقدير الشيخ له وإعجابه به، والشيخ محمود -رحمه الله- لا يكاد يعجبه أحد، ولا يكاد يسلّم لأحد، وهناك مواقف أخرى مثيرة بين أبي فهر وأبي سليمان في منزل أبي فهر أحدها كان مع الشيخ أحمد زكي يماني وزير البترول الأسبق، والآخر حول سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- ومواقف أخرى لا يتسع لها المقام. أما أستاذنا الكبير د.محمد عبد الخالق عضيمة -رحمه الله- شيخ النحاة في عصره، والحائز على جائزة الملك فيصل العالمية عن كتابه العظيم (دراسات لأسلوب القرآن الكريم) في أحد عشر مجلداً كبيراً، وهو أكبر موسوعة نحوية كتبت حول القرآن الكريم، فقد زرته في بيته مع أبي سليمان وتحدثا طويلاً، وقال عضيمة له: لم أر في رجال المباحث والاستخبارات مثلك، ولكنك مباحث على المخطوطات، فقد حدثه أبو سليمان عن بعض المخطوطات المهمة لكتب النحو واللغة والأدب، ومنها: كتاب الصناعتين، وذكر له نسخة فريدة في قرية تركية نائية، ولهذه النسخة قصة أيضاً مع الشيخ محمود شاكر، وكان الشيخ عضيمة ضمن لجنة المناقشة لرسالة أبي سليمان للدكتوراه، وقد صحبت الشيخ إلى مكة مع زميلي وصاحبي الدكتور إبراهيم أبوعباة لحضور المناقشة. وأما الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله- فقد اشترك مع أبي سليمان في تحقيق كتاب: (السحب الوابلة في طبقات الحنابلة) بتوجيه من سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله-، وكان الشيخ يثني على أبي سليمان وازداد إعجابه به عندما عرفه من خلال هذا العمل عن قرب، وكان يقول إن الجهد الأكبر في تحقيق هذا الكتاب لأبي سليمان وأنه ينبغي أن ينسب له، وكأني أذكر أن الشيخ قد كتب شيئاً من هذا الكلام في المقدمة، وقد سمعت منه مثله على مأدبة غداء خاصة في بيته أقامها لأبي سليمان، وحديث الذكريات يطول، ومنه الكثير في معارض الكتب التي حضرتها معه في القاهرة والكويت والشارقة والرياض وغيرها، وسأختم حديثي هذا بلقطات سريعة أسلط فيها الضوء على جوانب من شخصيته فيها شيء من الجد، وشيء من الطرافة: - أبو سليمان كريم مضياف، يفتح بيته في مكة لمجاميع من طلابه، في ليالي محددة أسبوعياً ويمد لهم مائدة عشاء بعد كل لقاء. - سمة التواضع والعفوية وعدم التكلف تبدو عليه في لباسه ومسكنه وتعامله مع الطلاب والعمال والخدم، وما رأيته لابساً للبشت في أي مناسبة كبيرة أو صغيرة، ناداه أحد طلابه في سوق الغنم بمكة بلقبه العلمي: يا دكتور يا دكتور، فجاءه أبو سليمان فرحب به ثم قال الطالب (حمّل معي يا دكتور هالغنم في السيارة) فقال أبو سليمان أبشر، وحمّلها معه، وهي بضعة رؤوس من الخرفان. - عشقه للغنم قديم متجدد، ولا يخلو بيته في مكةوعنيزة من حظيرة لها، ويشرف عليها ويحلبها بنفسه رغبة وهواية، وله في عيد الأضحى مزاجٌ و(كيفٌ) على حمس الكبدة و(حسحسة الرؤوس والكراعين)، وله في الطبخ عموماً دراية ونَفَس عجيب، وقد صحبته إلى استانبول مع الزميل الدكتور صالح العايد، فكان -على عادته- لا يحب (الصفرة) النوم بعد الفجر، وإنما يخرج إلى (الحَلَقَة) سوق اللحوم والخضار، ويحضر الطازج من الفواكه والخضار والكبدة والبيض، ثم يوقظنا بعد أن يجهّز إفطاراً فاخراً، وكنت عنده في شقته في مكة - قبل فلّة العوالي - وأهله في القصيم، فقال: هل ترى أن نتعشى في البيت (كبسة حاشي) أو نذهب إلى أحد المطاعم، فقلت له: كبسة الحاشي في البيت ألذ وأطيب ولكنها تحتاج ساعات حتى يذوب اللحم المثلج، فقال: (هذا ليس شغلك) انتظر: (45) دقيقة فقط وسترى الصحن أمامك، وفعلاً لقد خبصها مع موادها بطريقته في قدر الضغط الكاتم وجهزت قبل الوقت المحدد. - يتميز أبو سليمان بانقطاعه للعلم عشقاً ومحبة واحتساباً -وأحسبه كذلك- مع عزوف شديد عن طلب الدنيا به، ولا أدل على ذلك من عزوفه عن التقديم للترقية، والتقديم لجائزة الكويت وغيرها من المواقف، والذي يعيش معه لا يشعر بأن الدنيا تشغله فلا حديث له فيها وليست من اهتماماته، بل إنه لا يحسن إدارة المال ولا عدّ النقود، ومن طرائفه أن محاسب الكلية سلمه الراتب - قبل سنوات عندما كان الراتب يصرف نقداً وليس عن طريق البنك - فاستكثره أبو سليمان ورجع للمحاسب وقال: كأنك قد أخطأت وزدتني ألوفاً، فعهدي براتبي دون العشرة، واليوم زاد عنها، فضحك المحاسب وقال: (يا حليلك يا أبو سليمان، ليت جنسك كثير!) لقد انتهى في هذا الشهر القسط الشهري الذي يأخذه بنك القاهرة من راتبك وهو خمسة آلاف، وكان أبو سليمان قد وفق مع عدد من زملائه في الجامعة ومنهم جيرانه: د.عبدالله الرسيني، ود. عثمان المرشد وغيرهم بشراء مجمع فلل كبيرة وجديدة في حي العوالي -ولم يكن هذا الحي مشهوراً في ذلك الوقت- بالتقسيط عن طريق بنك القاهرة -المتوقف الآن- ومن نعم الله على أبي سليمان دخوله في هذا المشروع، الذي لولا توفيق الله له بدخوله فيه لظل يسكن بالإيجار إلى اليوم. ومن طرائفه المالية في هذا الباب: أن أحد طلابه الأتراك جاءه في بيته بخبره بسفره إلى تركيا، ويعرض عليه أي خدمة من هناك، فأخرج أبو سليمان ما في جيبه من المال وهو قريب من ثلاثة آلاف، وقال: أحضر لي بهذا المبلغ صورة من مخطوط كذا (وذكر له اسمه ورقمه واسم المكتبة) فضحك الطالب، وقال: يا دكتور قيمة الصورة لا تزيد عن مائة ريال!، فقال أبو سليمان: المخطوط ثمين عندي وهو يستحق أكثر من هذا، فأحضره إن شئت ولو بريال واحد، والباقي (حلال عليك). - عنده حرص على الوقت واستغلال عجيب له، والذي يراه يظن أنه مقبل على اختبار، فلا يأتي للرياض لزيارة والدته -رحمها الله- إلا ومعه مخطوط ينسخه، ويبدأ العمل في المطار وفي الطائرة ولا يتضايق أو يقلق إذا تأخرت الرحلة، ولا يخلو مجلسه في مكةوعنيزةوالرياض من مخطوط مفتوح وفوقه دفتر وقلم رصاص على (مركى) وهو طاولته المفضلة للكتابة، ولا أعلم أنه اتخذ مكتباً فاخراً وكرسيا وثيرا،( وليست المكاتب الفاخرة هي التي تنتج، فهذا الشيخ عضيمة -رحمه الله- قد أنجز أعماله العظيمة على مكتب مكون من صندوقين من صناديق البرتقال (صفا) في شقته الواقعة أمام جامع الديرة من جهة الشمال وكنت أزوره فيها كثيرا لأنه المشرف علي في الدكتوراه وكنا نتعامل معه بالكتابة والإشارة لأنه لا يسمع)، ويذكر لي أبو سليمان أنه قدم من القاهرة محملا بالكتب والمخطوطات من معرض الكتاب ودخل بيته في مكة بعد العشاء وليس في البيت أحد وجلس في المجلس يقلب هذه الكتب والمخطوطات وهو ينوي أن يجلس ساعة ثم يقوم للعشاء ثم النوم، لكنه استغرق في لذة ومتعة ولم ينتبه إلا بدخول الشمس عليه من النافذة، وقد يستغرب هذا الكلام من لم يجرب هذه اللذة، ولست أزعم أنني ممن يرقى إلى هذا المستوى. - عنده لفظ ووصف يطلقه على من يعشق التواضع ولا يحتفي بالمظاهر وهو لفظ: (دِحوسّة)، وربما قال لمن يحب: (أنت دحوسّة مثلي). وقد ذكر له أحد أصحابه سيارة مرسيدس مستعملة لكنها جيدة ونظيفة فاشتراها واستغربت ذلك منه؛ لأني أعرف أنه لا يفرق بين المرسيدس والكامري، ولا يشكل المظهر عنده أي قيمة، وبعد مدة رأيت زجاجها الخلفي فيه كسر أو شعر، فسألته عن السبب فضحك، وقال: ستضحك علي!، لقد اشتريت خروفاً نعيمياً ذا قرون كبيرة، وكانت (شنطة) السيارة مليئة بالكتب فخفت على الكتب، فأركبت الخروف في المرتبة الخلفية، لكنه لم يقدّر هذا التكريم فكسر الزجاج، فقلت له أنا أعلم أن المرسيدس لا يناسبك ولا تناسبه، واللوم ليس على الخروف وإنما على من وضعه في غير مكانه، وبعد مدة اشتريت هذه السيارة منه مبادلة بسيارة دونها ولكنها جديدة (من نوع شفر سليبرتي) مع زيادة قليل من المال، وإن كنت لست بعيداً عنه في فن (الدحوسة). - حيّز المقال يستوقفني، وشريط الذكريات يجذبني، ولأبي سليمان أصحاب وطلاب ومحبون قد يستهويهم الحديث عن حبيبهم أبي سليمان، ومنهم الدكتور حنيف القاسمي وهو أحد طلابه في جامعة أم القرى، وأكرمه الله في بلاده الإمارات بأن صار مدير جامعة، ثم وزيراً للتربية، ثم وزيراً للصحة، ومنهم الشيخ نظام يعقوبي من البحرين وهو من عشاق المخطوطات والمفتونين بها ويجد ضالته عند أبي سليمان مع أنه من رجال الأعمال، ومنهم في الكويت عدد كبير كالشيخ عبدالله المعتوق (أظنه صار وزيراً للأوقاف) والشيخ محمد بن ناصر العجمي. والأستاذ عبدالله المحارب وكان يعمل في سفارة بلده في القاهرة مدة طويلة وغيرهم (وأعتذر من الجميع إن أخطأت في اسم أو صفة لأني أكتب من الذاكرة عن أحداث مر على بعضها أكثر من ربع قرن ولم أرغب في سؤال أبي سليمان عن شيء منها خشية أن يعرف قصدي فيمنعني) ولنا مع بعض هؤلاء الأحباب جلسات في منازلهم في الشارقة والكويت والقاهرة وغيرها، ومن لم أذكرهم أكثر وأكثر. وأخيراً أقول إن لأبي سليمان أفضالاً كثيرة علي، فقد دلني على مخطوطتي رسالتي للدكتوراه: (ثمار الصناعة في علم العربية للدنيوري) ويسّر لي صوراً من النسختين المحفوظتين في المتحف البريطاني في لندن وفي مكتبة جامعة استانبول، وقد سافرت واطلعت عليهما في مكانهما، كما دلني على نسختي مخطوط: (الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية للطوفي) ويسّر لي الحصول على صورة منهما، وقد حققته وبذلت جهداً كبيراً في التعليق عليه، وطبعته عند العبيكان، وما زال صاحب فضل ونبل، أسأل الله أن يمنّ عليه بالصحة والعافية، وهو الآن في ميونخ يستعد للعودة إلى الوطن خلال أيام بحول الله بعد انتهاء الحذاء الطبي المعد خصيصاً لقدمه التي تماثلت للشفاء بعد عدة عمليات من العام الماضي. وما دمت في الحديث عن العلاج فإني أود أن أشكر كل من أسهم بأي جهدٍ في تيسير سفر أبي سليمان وعلاجه، وأخص بالمزيد من الشكر والثناء والدعاء حبيبنا جميعاً الشيخ الدكتور الوجيه النبيل أبي عبدالله فهد بن عبدالرحمن العبيكان الذي أسهم بماله وجاهه وجهده ووقته وسخر مكتبه في الرياض وألمانيا للتسهيل والمتابعة، فجزاه الله خيراً وبارك له في نفسه وماله وذريته. كما أشكر رئيس الهيئة الطبية وأعضاءها الكرام على استجابتهم واقتناعهم أخيراً بتحمل تكاليف العلاج واستقبال الفواتير التي سددها أبو سليمان متحملاً بعض القروض، وأسأل الله للجميع العون والتوفيق والصحة والعافية. د. محمد بن خالد الفاضل - جامعة الأمير سلطان