هل يمكن لواشنطن إقامة علاقات بناءة مع زعيم روسي يعتقد أن الأمريكيين يسعون إلى تدميره؟ بعد الاستماع إلى الخطب الحماسية الرسمية المعادية لأمريكا في موسكو أعتقد أن إقامة مثل هذه العلاقات يعد امرا صعبا. فقد كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الفائز بفترة رئاسة ثالثة بعد أن أمضى فترة انتقالية كرئيس للوزراء أنه يؤمن بأن واشنطن تضعه في مرمى نيرانها. يقول ديمتري ترينين مدير مركز أبحاث كارنيجي موسكو التابع لمؤسسة كارنيجي البحثية الأمريكية في روسيا: إن بوتين يؤمن حقا بأن الولاياتالمتحدة تستهدفه وتسعى إلى تغيير نظام حكمه في روسيا. والحقيقة أن عمق شعور بوتين بجنون العظمة سوف يكون مؤثرا على مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية بصورة أكبر من تأثير تزويره للانتخابات خاصة وأن التزوير لم يكن بهدف تغيير النتيجة لصالحه وإنما لزيادة النسبة التي فاز بها. يقول بعضهم إن السياسة الخارجية الروسية لن تتغير كثيرا في ظل الرئيس بوتين العائد إلى قصر الرئاسة من جديد. فالتقارب الذي تم بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره المنتهية ولايته في روسيا ديمتري ميدفيديف لم يكن ليتم بدون ضوء أخضر من رئيس الوزراء خلال السنوات الأربع الأخيرة فلاديمير بوتين. ولكن من الصعب تخيل حدوث تعاون بين واشنطنوموسكو بشأن قضايا مثل البرنامج النووي في إيران أو الاحتجاجات الشعبية في سوريا ضد الرئيس بشار الأسد في ظل وجود رئيس روسي يشعر شخصيا بأن واشنطن تستهدفه! تأمل ما يلي: في ديسمبر الماضي اتهم بوتين وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأنها وجهت «الإشارة» التي أشعلت الاحتجاجات السياسية ضده. وقد تم استقبال السفير الأمريكي لدى موسكو مايكل ماكفول بوابل من العداء لدى وصوله إلى موسكو في يناير الماضي حيث اتهمه التلفزيون الروسي المملوك للدولة بأنه جاء لكي يشعل ثورة في البلاد. المفارقة أن ماكفول كان مهندس سياسة التقارب مع روسيا في إدارة الرئيس أوباما. في الوقت نفسه فإنه ارتبط بعلاقات وثيقة مع المنظمات غير الحكومية الرامية إلى تعزيز الديمقراطية في روسيا وهو ما جعله موضع شك من جانب بوتين. ولكن الانتقاد اللاذع لطريقة تعامل ماكفول تشير إلى عمق شكوك بوتين في النوايا الأمريكية. فقد كان العداء لأمريكا ملمحا رئيسيا في حملة الرئيس بوتين الانتخابية، حيث لعب على الشكوك الروسية الغريزية في الولاياتالمتحدة وتزايد النظرة إلى واشنطن باعتبارها عدوا. خلال المعركة الانتخابية بروسيا سمعت الكثير من الأحاديث المعادية لأمريكا في تلفزيون الدولة الرسمي بصورة ربما أثارت دهشة أعضاء المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفيتي السابق في ذروة الحرب الباردة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي السابق. فقد بثت القنوات التلفزيونية برامج وثائقية تصور المؤامرات الأمريكية من أجل مهاجمة روسيا أو تفكيكها وكذلك برامج تشير إلى خطط أمريكية لدفع بوتين إلى الاستقالة. وحققت هذه الحملة نجاحا كبيرا إلى درجة أن سائق سيارة أجرة في موسكو ركبت معه فوجدته يسألني بمنتهى اليقين: «لماذا تريد أمريكا تدميرنا؟» وقد قال لي محللون سياسيون روس لي: إن عداء بوتين لأمريكا أعمق من كونه ورقة انتخابية. فلا شك أن هذا العداء يعود إلى سنوات عمله في جهاز المخابرات السوفيتي (كيه.جي.بي) السابق عندما كانت الولاياتالمتحدة هي العدو الأول لبلاده. كما أن بوتين مازال يشعر بغصة من فقدان بلاده لمكانة القوة العظمى الثانية في العالم ومن توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تقوده أمريكا في أوروبا الشرقية على حساب مناطق النفوذ التقليدية لروسيا. كما أن بوتين شعر بسخط شديد من تأكيد إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش انفراد أمريكا بالسيطرة على العالم وقراره غزو العراق عام 2003 رغم رفض روسيا والعديد من الدول الكبرى الأخرى في ذلك الوقت. لذلك يقول ترينين مدير كارنيجي موسكو: إن بوتين يعيش في وهم «التحالف مع أوروبا أو الصين ضد الولاياتالمتحدة». لكي نكون منصفين علينا الاعتراف بأن المصالح الروسية في إيران وسوريا تختلف تماما عن المصالح الأمريكية في البلدين. فمعظم أفراد حاشية الرئيس بوتين يعتقدون أن الرئيس السوري بشار الأسد سيتكمن من البقاء في السلطة وسوف يشعر بامتنان شديد لروسيا، بحسب جورجي ميرسكي، أحد الخبراء الروس البارزين في شئون الشرق الأوسط. فروسيا تبيع الأسلحة لسوريا وتستطيع السفن الحربية الروسية الرسو في ميناء طرطوس السوري وهو الميناء الوحيد في البحر المتوسط المفتوح أمام السفن الروسية. كما يشعر الرئيس بوتين بالمرارة لآن موافقته على التدخل الإنساني في ليبيا أدى إلى تدخل عسكري لحلف شمال الأطلسي والإطاحة بنظام حكم العقيد الراحل معمر القذافي في طرابلس. يقول ميرسكي: إن الأمر بالنسبة للملف الإيراني ينطلق من حقيقة أن «مسؤولي وزارة الخارجية الروسية يعتقدون أن قادة إيران عقلانيون وليسوا متطرفين ولا يريدون الحصول على قنبلة نووية». إذا كانت أحاديث بوتين المثيرة المعادية لأمريكا تهدف إلى الحصول على الدعم المحلي أو أن مواقفه تجاه واشنطن مجرد مواقف براجماتية تستهدف تحقيق مصالحه فإن المرأ يمكن أن يتخيل بعض التعاون بين أمريكا وروسيا في الموضوعات ذات الصلة بالأمن القومي بما في ذلك قضية الدرع الصاروخية وإيران. أما إذا كان العداء لأمريكا قد أصبح اتجاها راسخا لدى بوتين ينطلق من موقف شخصي ويقين راسخ فإنه سيكون من الصعب تصور أي تعاون بين موسكو وواشطن. وفي مواجهة التحديات الداخلية فإن بوتين سينظر إلى الدعم الأمريكي المستمر لمنظمات المجتمع المدني الروسية باعتباره محاولة أمريكية للإطاحة به. في هذه الحالة سوف يتقلص التعاون الأمريكي الروسي باستمرار. يقول ترينين: إنه إذا أعلن بوتين اعتبار أمريكا العدو الأول لبلاده فسيكون لذلك تداعيات خطيرة في صورة تزايد التوتر في الشرق الأوسط وأوروبا. ولن تستند سياسات التقارب بين أمريكا وروسيا على اعتبارات المصالح القومية للبلدين وإنما إلى ما يدور في عقل بوتين نفسه. *(فلادلفيا إنكوايرر) الأمريكية