يضع يده على مقود سيارته المرسيدس السوداء الفخمة دون اكتراث أو تركيز، يتكئ بكل استرخاء بعضده الأيسر، رامياً جسده على الباب بشيء من الإرهاق كرد فعل طبيعي في أوقات الانتظار في يوم مشمس شديد الحرارة من أيام الرياض الصيفية المعتادة، عند إشارات المرور الطويلة والازدحام الخانق. زجاج المرسيدس مغلق ومكيفها يدفع هواءً بارداً يقاوم الحرارة.. بدا المكيف أيضاً ساخطاً كما لو كان هو الآخر يشعر بالملل من هذا الجو الحار الذي يمكن أن يساعد على النشاط أبداً.. يتحرك عبدالله ويغير من وضعه مستعداً للحركة فكل السيارات بدأت بالتحرك.. حرك سيارته من مكانها إلى الأمام قليلاً إذ لم تسمح الإشارة الضوئية إلا لعدد قليل من السيارات بالعبور، وحجزت البقية ومن بينهم سيارة عبدالله.. ما إن وقفت السيارة حتى أخذ شماغه وعقاله بقبضته، ورماهما على المقعد الآخر مع زفير قوي مليء بالتذمر والملل. (كل ما اقفيت ناداني تعال). لم يشد صوت محمد عبده الجميل انتباهه كثيراًن فعقله لا يكون بكامل طاقته بعد ساعات طويلة من العمل المتواصل في الشركة، وتحت ظروف هذا الجو شديد الحرارة والزحام الذي لا ينتهي.. يكاد هاتفه الجوال لا يهدأ ولا يمل من الرنين.. مكالمات لم يرد عليها، ورسائل لم تقرأ. يستعرض عبدالله هاتفه محاولاً قتل أوقات الانتظار بشيء مفيد، فيبدأ قراءة الأرقام واحداً تلو الآخر.. أسماء معروفة وغير معروفة.. ما أن بدأ بتصفح الرسائل إلا وتوقف عند واحدة منها.. رأى شيئاً غريباً.. رسالة بلا نص.. رسالة فارغة.. رقم هاتف لا يمكن لذاكرته أن تنساه رغم أنه قد مسحه من هاتفه منذ أكثر من خمس سنوات.. رقم رغم صعوبة حفظه إلا أنه لا يمكن أن ينسى، فقد حفر في القلب قبل الذاكرة. أطلق عبدالله عنان خياله يسبح في ملكوت أفكاره.. أخذ يحدث نفسه فيسترضيها ويناقضها باستنتاجات تزاحمت وأسئلة بلا إجابات.. - هل يعقل أن يكون رقم هاتفي لا زال في هاتفها بعد كل هذه السنين والفراق؟ - أهي صدفة زجت إلي بهذه الرسالة؟ - هل الرسالة الفارغة.. عمل مقصود؟ - إن كان كذلك فلماذا رسالة فارغة؟ - هل تقول لي أن الحب لا يزال يدق قلبها كما هو في قلبي؟ تساؤلات كثيرة لم تمنحه فرصة التفكير والوصول إلى استنتاج.. رسالة فارغة.. لكنها تحمل من المعاني ما عجزت عنه كل رسائل الدنيا المليئة بكل الكلام الجميل.. رسالة فارغة.. تحمل معها كل الذكريات الجميلة، والاشتياق الحميم.. رسالة فارغة.. تعيد نشوة الحب الصادق كأنه وليد اللحظة. تزاحمت أفكاره وتفاصيل حياته جميعها وسيل من التساؤلات.. عادت فجأة حبيبته التي أبعدها القدر وخطفها الزمن في لحظة فراق قاسية.. رسالة فارغة.. جعلته يعيش مرة أخرى كل لحظة من سنوات الحب الرائع.. رسالة فارغة.. اختصرت السنين، وأعادت العمر إلى سنين الزهو والفرح دون أن تحوي أي حرف.. رسالة فارغة.. معنونة برقم لم ولن ينساه. انتبه فجأة على صريخ فج اخترق رأسه، أخرجه من عالم أفكاره وتيار الزمن الفاتن.. انطلق صوت منبهات السيارات من خلفه وجانبه، فوضع هاتفه جانباً محركاً سيارته إلى الأمام. سارت سيارته في الطريق بين سيل السيارات شبه الطائرة، وهو ممتلئ يقيناً أن حياته بدونها فراغ كبير مليء باللاشيء كفراغ هذه الرسالة.. الرسالة الفارغة.