عندما كنت وزيرا للصحة، وصل الفاسدون حتى إلى سكرتير مكتبي فحاولوا رشوته عندما أغلقت أمامهم الطريق، ضبطنا أكثر من عشرين عملية للرشوة أذكر منها أن أحد الأشخاص من مستثمري الصيدليات حاول رشوة أحد المسؤولين ب10 ملايين ريال، ضبطنا أيضا مدير تموين طبي في إحدى المناطق شمال المملكة يقوم ببيع الأدوية لحسابه الخاص، وتمت إحالته لهيئة الرقابة والتحقيق لردعه ومجازاته، وضبطنا مرتشياً في قسم التغذية بمدينة الملك فهد الطبية، وآخر يستلم رواتب وظائف، وحارس أمن قبض على شخص يسرق أجهزة كمبيوتر من الوزارة، وغيرهم الكثير وتلك القضايا جلبت لي الصداع كثيراً. الكلام أعلاه لوزير الصحة السابق الدكتور حمد المانع، وهو كلام محزن رغم صراحته ووضوحه، وهو شهادة تغني عن الكثير، رغم أنها شهادة عابرة جاءت في معرض حديث صحفي طويل أدلى به لجريدة عكاظ، بمعنى أنه لو كتب سيرته الذاتية العملية، خلال عمله كوزير للصحة لكشف الكثير من الخلل، والثغرات التي يستغلها ضعاف النفوس في سرقة المال العام، وهو أمر مرعب يضرب أي بلد في مقتل، حتى وإن كانت بلداً تمتلك أعلى احتياطي نفطي في العالم مثل بلادنا، لأن الفساد يمكنه أن يعيث في المال العام حتى وإن كان بحجم المحيط، فالأمر أكبر من قدرات هيئة وطنية لمكافحة الفساد! فلا يكفي أن تكون لدينا هيئة فساد تنتظر اعترافاً من موظف صغير، أو تنتظر صدفة تكشف لها عملية رشوة، ولا أظن أن وجود موظف من الهيئة في كل الجهات الحكومية لمراقبة الأداء وتنفيذ العقود مجدياً، لأن ذلك الموظف بعد زمن قصير قد يكون جزءاً من نسيج هذه الجهة أو تلك، تماماً كموظفي الجهات المالية الرقابية التي يذوب موظفوها في الجهات التي ينتظمون في العمل داخل أسوارها. أعتقد أن مكافحة الفساد يجب أن تكون شأناً وطنياً بامتياز، يتربى عليها الأطفال والشباب قبل غيرهم، ويدرك كل منهم أن ذلك المرض هو أخطر من أمراض قديمة كانت تلتهم أهلنا، كالطاعون والملاريا والجدري وغيرها، لأن ذلك المرض يلتهم عصبنا، يلتهم مقدراتنا ويجعلنا مقعدين، غير قادرين على المشي واللحاق بالأمم والشعوب، ولا يخفى على أحد أنه لولا تفشي الفساد في المجتمع بنسبة مقلقة لاستطعنا أن نحل جميع مشاكلنا في التعليم والصحة والتوظيف وغيرها. فإذا كان الدكتور المانع كشف بعض الحقيقة في فترة سابقة، كيف لو ماثله جميع الوزراء في الفترة نفسها في كشف ما أحاط بوزاراتهم من ألاعيب وخدع لكسب المال بطرق غير مشروعة، وكيف لو تم تدوين هذه المكاشفات في بحث أو كتيب أو مذكرة، يتم تسليمه لهيئة مكافحة الفساد، كي تختزل الزمن في كسب خبرات جديدة في الألاعيب المستخدمة في الجهات المختلفة من خلال حوادث فساد حقيقية. ما ندركه أن هيئة مكافحة الفساد أمامها ملفات ضخمة، وقضايا معقدة، تحتاج إلى كوادر وطنية مخلصة، كي تنقذ البلاد من هذه الآفة المضنية.