الحرية كلمة براقة، ومما زاد بريق انعكاساتها اللاهثة، تغني الشعراء بها، واستحكام الحكماء والفلاسفة بين أركانها, فنرى الملعب الذي أضنته تيارات الحياة يتلهى بها، يتخذها بعض الناس سلاحا يجهر به في وجه التيارات العاتية، ويحتمي بها الشاب المتمرد على تقاليد الحياة، وينادي بها اللاهث خلف ألوان المغريات. جميل أن يتحرر الشعب من قيد الاستعمار ويأخذ حريته، فكلنا يطرب لقول الشاعر: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق وجميل أن يتحرر العبد من ربق العبودية، وجميل أن يعبر الفرد عما يدور في خلده، كلمة الحرية تغري كل السابحين بامتطاء صهوة قاربها، ولكن السؤال ما مدى سلامة ذلك القارب الذي يحملها امام مصارعته الأمواج العاتية؟ قد تكون الحرية مطلباً سامياً، ولكنها قد تكون سبباً للهلاك، وقد تكون مدعاة للفساد، فسجن الغزال في حظيرة آمنة في الحدائق يأمن اغتيال النمور والأسود, وسجن الغاز في أنبوبة قوية أمان من اندلاع الحرائق. يقولون حرية المرأة، حرية الرأي، حرية القول، ومثلها مسميات كثيرة، وقبل أن أستعرض بعض تلك المسميات: أتصور استقلاب لوحة عاكسة لتلك المفاهيم: فالحياة خيطان مصالح متشابكة نظمت بصنع الخالق سبحانه وتعالى،ويستطيع الكائن أن يحجل بين تلك الخيوط كما يحلو له: ولكن الخيوط تتأرجح بطاقة ثابتة في هالة محددة وأي تماس بين الخيوط يحدث ماسا كونياً قد يشعل نارا تتحدد قوتها وينطلق لظاها بقدر معكوس لحادثة الاضطراب الخيطي المتمرد على الإطار الكائن، فالكائن حر ما دام لا يحدث ماسا في تلك الخيوط المنسوجة كل خيط يمثل عقيدة أو عرفاً أو قانوناً أو تياراً تحجرت أركانه بتوالي الأيام ولم يكن المزاج العصري مخططا له ضمن خلط السبيكة الكونية، والأمزجة متقلبة والخيوط تمثل مفاهيم ثابتة اتسمت بالصيرورة المطلقة على كر السنين، مخالفتها ينهش قدسيتها ويثير غبار السخط الاجتماعي، والإنسان أحد هذه الموجودات الكونية يعيش متفاعلاً مع سائر خيوط النسيج، وحقا فإن التمرد على الحرية المطلقة ضرورة تماشيه، ونجد أن كثيرا من الموجودات لا تدوم حياتها إلا بحرق جوانب من حريات الآخرين، فالإنسان يخنق حرية الخروف ليأكله، والنمر يخنق حرية الظبي ليأكله، والمرابي يختلس حرية الفرد ليسرقه بمفاهيم مبطنة, والأب يسكت ابنه تطبيقا لعرف قبلي. فكلمة الحرية بمفهومها العميق تضاف إلى عجائب الدنيا السبعة كما ذكر غيري مع أنني أجد عجائب الدنيا أكثر من أن تحصر إذا عرضنا الحوادث على مفاهيم البشر المتباينة ففي تصوري أن العجب لا يكمن في بناء ضخم، فما أكثر ما يثير العجب من حوادث الأيام وسلوكيات البشر، وقد نقول إن الحرية من المستحيلات الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة، الحرية سراب خادع لانصل إلى لجة ماء حقيقته مهما سرنا نحوه، وفي تصوري أنها لفظ بلا مضمون، أو أنها مضمون هلامي غير ثابت الأركان ما يطلب من حرية قد يكون معول هدم كياني، وقد ينجو الفرد بالتخلي عن حريته، وقد يكون الجو الآمن بعيداً عن الحرية، وموجات التطاول لنيل الحرية متعاقبة منذ القدم وما زال بريق هذه الكلمة ترقص له الآمال وتصفق له المشاعر، وقد تتسامى المشاعر فيجود الفرد بنفسه أو بما له في سبيل طبع هذه الشعارات على الهامات، وأخص بالذكر الحريات العامة والحريات الوطنية وأخص العقدية والعرفية. وهلامية مضمون هذه الكلمة قد تسيّل كثيراً من المفاهيم، تلغي بعض الموجودات وتطالب بإحياء موجات أخرى من المفاهيم والأفكار والتصرفات، وقد يبني أحدهم من لفظ هذه الكلمة جسوراً من هباء يحاول أن يعبر من خلالها إلى مراتع التحلل الفكري والجشع العابث، وقد يحيل بعضهم سوء تصرفه إلى سلة هذه الشعارات الصارخة ولا يأبه بالخيوط المنسوجة التي تدق أجراس الخطر إذا اهتزت أوتارها بلا نظام يتيح لها التأرجح دون إشعار الماس اللاهي. ولعل التمثيل يبين المثال: فادعاء أحدهم برغبته في حرية ضرب الدف أو قرع الطبل لمزاج ذاتي: تتحدد هوية حريته في حدة الصوت الناتج، ومكان الضرب أو القرع، ومناسبة هذا الحدث، فانسجام المقدمات مع النتائج يعطي حرية التصرف، واختلاف المقدمات مع واقع الصيرورة تصبح الحرية حرباً لابد أن تقاوم، وابتلاع الأفعى لجرذ حرية لا تقاوم وقد تخضع لنظام يتفاوت مداه وتتباين أركانه. ولن يوافق أحد اعتبار الحرية إطلاق التصرف، فخيوط النسيج المتشابكة يختل نسيجها إذا اضطرب نظامها، والعلاقة البشرية تتأثر بطبيعة التمثيل وأسلوب التنفيذ فصعود أحدهم يعني هبوط آخر، والقمة يقابلها الوهاد. ولن يكون أحدنا منصفا لو رغب باسم الحرية أن يجمع كل خيوط الشبكة، فشد الخيط من جهة يعني انسحابه من الجهة الأخرى. ويبقى السؤال: ما مدى تحقيق الفرد لكل غاياته باسم الحرية؟ ولا بد أن يعلم كلنا أن تحقيق الغايات شيء نسبي، فقد تتحقق غايات مادية ولا تتحقق الغايات الصحية، وقد تتحقق الغايات المادية والصحية ولا تتحقق الغايات الاجتماعية أو النفسية وكذلك الوطنية والبيئية وغيرها, وقد يتخيل أحدهم أن الحرية سبيل تحقيق كل تلك الغايات, ويبقى هذا التخيل واعداً من خلال بحر من الخيال، ويجري الإنسان، ويطمح الإنسان، ويأمل الإنسان، ويزرع الإنسان، ويحلم الإنسان ولا نجد إنساناً أنجز كل ذلك قبل مماته، ولو وهب أحدهم ألف عمر إلى عمره لما أنجز كل طموحاته، لأن تلك الطموحات تبقى متلاحقة متتابعة كأمواج البحر تتكسر على بعضها بلا نهاية. لا أقصد التلويح بمقدمات يائسة، ولكنني أقصد القناعة في استجلاب الطموحات الخارقة من خلال كلمة ساحرة اسمها الحرية، والبحث عن مسميات ذات واقع ملموس تناسب كل رغبة يعمل الفرد على تحقيقها من خلال جهد ملموس وأسلوب حذر لا يفسد النسيج المعمول، والقفز من فوق القمم يسقط القافز في الوهاد، ومهما قيل فسيبقى الإنسان في كبد إلى آخر الزمان، ولكن العبرة في استقطاب الحقيقة والقبول بواقع الحياة، ويصعب على السابح وإن كان ماهراً أن يستمر طويلا في مجابهة أمواج محيط هائج ومن عرف حقيقة الدنيا لن يُغرَّ أو ينبهر بكلمات كالحرية، وستبقى إلى الأبد مجرد كلمات لا تستنبت إلا شعارات تلوك الوهم وتجمع الشقاء.