صدرت موسوعة علمية جديدة بعنوان: (رسول الله وخاتم النبيين - دين ودولة) جاءت في خمسة أجزاء، الأول (علم السيرة النبوية - العالم والمصطفى والوحي)، والثاني: (الاضطهاد والهجرة والتنمية)، والثالث: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)، والرابع: (العالمية والدولة الإنسانية)، والخامس: (المعايشون للمصطفى صلى الله عليه وسلم) للأستاذ الدكتور عبد العزيز بن إبراهيم العُمري أستاذ السيرة النبوية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وبيّن مؤلف الموسوعة في مقدمة له أنه اختار منهجاً لموسوعته يقوم على الاستفادة من مصدر السنة في الروايات المرتبطة بالسيرة وتقديمها على غيرها، وخصوصاً ما يرتبط بأحكام شرعية، ويأتي في مقدمة ذلك صحيح البخاري، بكتبه وأبوابه المتفرقة وعناوينها المميزة، وغيره من مصادر الحديث، مضيفاً أنه استفاد من الكتب المتخصصة في السيرة وتفاسيرها، والمصادر التاريخية المختلفة وغيرها، وبعض الكتب الحديثة المتخصصة، كما استفاد كثيراً من المراجع والأبحاث الحديثة في مجال السيرة النبوية، مما يصعب حصره، وأشار إليه بالتفصيل في مواضعه في هوامش الكتاب وفي قائمة المصادر، التي قاربت الأربعمائة ما بين مصدر ومرجع. وصاغ مؤلف الموسوعة الأحداث بأسلوبه الخاص، ممزوجاً بالشواهد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، التي أوردت نصوصها عندما رأى مناسبة لذلك، وحاول الدمج بين ذكر الحدث وفقهه، والاستفادة من دروسه في حياة الناس عامتهم وخاصتهم، وأبرز الجوانب الحضارية العالمية، والتنظيم، والإدارة في السيرة النبوية، وترجم لأكثر الناس معايشة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبعض ما يرتبط بتلك المعايشة من أحداث، بانياً ذلك على ما يصح من الروايات، وقد جعل الكتاب شاملاً لما قبل ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأحوال العالم المختلفة قبل الإسلام، وانتظار البشرية لخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً أهل الكتاب منهم. وحاول مؤلفها الدكتور عبد العزيز العُمري استقصاء الشواهد من مصادرهم من خلال نُسخها المعاصرة المعترف بها من قبل علمائهم حالياً، وكذلك من خلال مؤلفاتهم الحديثة، وأقوال المستشرقين عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث فصل في أحوال العالم المعاصر للنبي صلى الله عليه وسلم، وتحدث عن أحوال العهد المكي بجميع أحداثه ووقائعه، وكذلك المرحلة المدنية من السيرة بحوادثها المختلفة مدنيها وعسكريها، وتطرق للنظم الإسلامية في العصر النبوي، وتأسيسه صلى الله عليه وسلم لدولة الإسلام، والقيم التنموية والمدنية التي بثها في المجتمع البشري صلى الله عليه وسلم، وأدارها بنجاح وتميز، وصارت نبراساً للبشرية، وللإدارة الإنسانية الشاملة. كما تحدث المؤلف عن بيعة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يوم وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونجاحه في قيادة الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجم بالتفصيل للشخصيات المعايشة له صلى الله عليه وسلم من المؤمنين به من أهل البيت ومنهم أمهات المؤمنين، وبناته، وأصهاره، ومن عاش في بيته من خدمه ومواليه ومن في حكمهم المؤثرين في الأمة، واجتهد في هذا للربط بينهم وبين حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأثير التربية النبوية على حياتهم في أيامه صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته. وخلص مؤلف الموسوعة إلى أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين منَّ الله على المؤمنين ببعثته، وجعله رحمة للعالمين، تعبد الله الناس باتباعه، عاش صلى الله عليه وسلم أحداث عصره بمشاركة من المؤمنين من أهل البيت والأصحاب الذين شاركوه الأحداث وتأثروا به وأثروا في الأمة، عاش صلى الله عليه وسلم حياته، ورفع الله ذكره كما لم يذكر أي أحد من البشر إلى يوم القيامة، يمر الملوك وينسون عبر السنين، وتقوم الدول وتنتهي، وتمر الدهور والعصور وينسى من مر بها، لكنه صلى الله عليه وسلم باقِ في القلوب، قدوة في السلوك، عُرف من حياته ودقائقها بكل وضوح وأمانة ما لم يعرف عن غيره، قدمه المسلمون صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، محبته واجبة على كل مسلم، سيرته واضحة ومدونة، فيها الصدق والشمول احترمه معادوه من غير المسلمين، ورأى الجميع أنه صلى الله عليه وسلم النموذج البشري الأرحم والأمثل، والأتقى والأعدل والأحكم، فاستمروا في الكتابة عنه وعن حياته وسيرته صلى الله عليه وسلم وسيستمرون إلى يوم القيامة، ولن يجدوا له مثيلاً من البشر. وبالتالي فلدراسة سيرته أهداف واضحة، فهو خير إنسان، سيد ولد آدم، جمع في سلوكه بين الدنيا ولآخرة، في تطبيق عملي لشريعة الله الرحيم بخلقه، امتداداً لمن سبقه من أنبياء الله، قدوة للساسة وللأزواج والآباء وللمصلحين والعامة، الفقراء منهم والأغنياء، وعرفت صفاته الأمم السابقة قبل زمانه، ومن خلال سيرته نعرف زمانه ومن عاصره من الأمم، ومن صحبه من الرجال، ومن تزوج من النساء، ومن حارب من الأعداء، نعرف تعامله وخصائصه وشمائله صلى الله عليه وسلم، حيث اصطفاه ربه وأدبه وصلى عليه وآتاه القرآن ومثله معه، وختم به الأنبياء، هو الأول في مصاف العظماء عبر التاريخ، لم يخرج عن بشريته وعبوديته لله عبداً لله شاكراً، جعل محياه ومماته لله رب العالمين، عاش في زمن صعب في منطقة قاسية، وبين أناس أميين وثنيين جهال، فتنزل عليه النور والعلم والتوحيد، وانطلق به إلى أصقاع الأرض. وبين المؤلف أن سيرته عليه الصلاة والسلام أصح السير، لا لبس فيها ولا كذب ولا غرر، هي علم قائم بذاته، عرف بعلم السيرة والمغازي، رواياتها واضحة معروفة المصادر، نالت جهداً عظيما من علماء الإسلام وغيرهم، في الرصد والتأليف منذ القرن الأول الهجري حتى يومنا الحاضر، اشتهر بها علماء ومختصون، ورد الكثير منها في القرآن الكريم، وشرحتها كتب التفسير وأسباب النزول، وأبانتها كتب الأحاديث والسنن والتاريخ والمصادر الأخرى، ناهيك عن الكتب المتخصصة فيها، وارتبطت بمعالم جغرافية تؤيدها، وحوادث عالمية تدعمها، ومصادر لغوية وأدبية أثرتها. وتوصل مؤلف الموسوعة إلى أن من حياته عليه الصلاة والسلام يتعرف الإنسان على عصره وما صاحب زمانه من أمم وحضارات وأحداث وعادات، وعُرف نسبه وقبيلته وقومه آباؤه وأمهاته وأعمامه وعماته، وما يتصل بهم من أخبار، فكان من أشرفهم وأوسطهم، وقد ساءت أحوال الإنسانية قبل مبعثه، طغى الظلم وعم الفساد، وانتشرت الوثنية، وحُرفت اليهودية والنصرانية، ودخلها سوء الأدب مع الله والشرك والعبث، وقتل المصلحين، واتخذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، وحُرفت التوراة والإنجيل، واستغنوا بما كتبوه بأيديهم عن ما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وفي الجانب السياسي طغى الظلم، وسيطرت دولتا فارس والروم على مناطق الحضارات المجاورة في فارس والشام ومصر وغيرها، ووصل تأثيرهم للعرب الذين كانوا ضعفاء وأحوالهم سيئة في الأصل، سواء في مراكزهم الحضرية كمكةوالمدينة واليمن والبحرين وغيرها أم في البادية والأعراب، إضافة إلى الممالك العميلة للفرس من مناذرة الحيرة والعميلة للروم غساسنة الشام. وأشار د. العُمري في موسوعته إلى أن العالم كان ينتظر هادياً يقوده لخالقه، ويرفع ظلم العباد بعضهم عن بعض، اليهود في بلاد الحجاز وخصوصا في المدينة وما حولها ينتظرون نبي آخر الزمان وخاتمهم، فجاء مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم في مكة. وسُمي محمداً أفضل الأسماء وأزكاها، بدأ حياته يتيما فآواه الله وحماه وأدبه، عاش جزءاً من صغره وصباه بين أُمه وجده في مكة، وبين بني سعد عند حليمة مرضعته، حيث استقى اللغة الصحيحة بفصاحة العرب وبلاغة الأعراب مع لبن الرضاعة، طهره الله بشق صدره في بني سعد حيث صباه وشبابه ترعرع في مكة، رغم فساد البيئة، فقد رعاه الله وحفظه قبل البعثة وزكاه وأدبه، كان في أول الأمر تحت رعاية جده عبد المطلب، وبعده رعاه عمه أبو طالب، كانا يدنيانه ويقربانه ويلاحظان فيه من الأخلاق والأدب والجد والعمل ما لم يرياه في غيره من الصغار، بعد وفاة أمه رعته حاضنته أم أيمن بركة الحبشية مولاة والده عبدالله، فكان وفيّاً معها بقية حياته. وكان عليه الصلاة والسلام محل ثقة الرجال واحترامهم حين بلغ مبلغهم، كان رحيما عطوفا واصلاً للرحم مكرما للضيف معينا للناس، محباً للبر ومساعدة الآخرين، وكانت مهنة التجارة تغلب على أهل مكة، والكل يبحث عن الأمين ليعمل له في تجارته، فعُرف بين أهل مكة بالصادق الأمين، وطلبت منه خديجة بنت خويلد أن يعمل في تجارتها، فأدركت فيه صلى الله عليه وسلم من الصفات والصدق والأمانة والشهامة والرجولة ما دفعها للحرص على الزواج منه صلى الله عليه وسلم، فعرف ذلك عن طريق صويحبة لها، وكانت امرأة عاقلة حكيمة عفيفة فهيأها الله زوجة للمصطفى صلى الله عليه وسلم رغم فارق السن بينهما، حيث كانت تكبره بخمس عشرة سنة، فكان الزواج المبارك والذرية المباركة أبناء وبنات المصطفى صلى الله عليه وسلم عدا ابنه إبراهيم. وأفاد المؤلف في خاتمة موسوعته أن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد في رجولته حلف الفضول الذي تبناه بعض زعماء قريش لدفع الظلم عن المظلومين في مكة، وعَرف في رجولته أصدقاء أوفياء جُبلوا على الصدق والأمانة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما عَرف العمل في تجارة قريش فزار عدداً من أسواق العرب، وسمع الخطباء والشعراء في سوق عكاظ وغيرها، فكان يذكر القيم والأخلاق من الشعراء والخطباء العرب ويدرك ما يقولون، شهد تجديد قريش لبناء الكعبة قبل مبعثه بخمس سنوات، وما حصل من إشكال بينهم حول إعادة الحجر الأسود إلى مكانه، حتى كاد يقع بينهم قتال، فاختاره القوم للتحكيم بينهم واصفيه بالأمين، وفي حكمة وعقل حل المشكلة القائمة من خلال حمل الحجر الأسود من جميع الأطراف بردائه صلى الله عليه وسلم ثم وضعه بيده الشريفة في المكان المخصص له، مما دفع الجميع للرضا ونزع بذلك فتيل الخلاف. وأبان الدكتور العُمري في موسوعته أنه قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد من البشر يعلم أنه سيكون نبياً، ولم يَدَّعِّ هو ولا غيره من أهل مكة هذا الأمر على الإطلاق، ومرت به بعض الإرهاصات الخاصة قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، تحدث عنها صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه، مثل تسليم الحجر والشجر عليه والرؤيا الصادقة، ثم حُبَّبت إليه الخلوة، فكان يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد موحدا لله ذاكراً له ومناجياً، يعود لبيته بعد أيام ليتزود ويرجع إلى غار حراء في جبل النور في أطراف مكة، كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يطلع على أي من الكتب الدينية السابقة، واستمر في عمل الخير للناس. وأشار المؤلف إلى أنه بعد بلوغه صلى الله عليه وسلم الأربعين من العمر، كان في غار حراء في جبل الثور في يوم من أيام شهر رمضان المبارك، فأتاه جبريل عليه السلام، ونزل عليه الوحي لأول مرة، وكانت أول آية تنزلت تطلب منه القراءة وهو الرجل الأمي، صلى الله عليه وسلم في بلاغة وإعجاز، ورجع بعد ذلك خائفا إلى زوجته العاقلة الحكيمة الحنون، فتذكره برحمة الله وبما في الله من الرحمة وما فيه صلى الله عليه وسلم من الصفات الحميدة التي يحبها الله في عباده وتطمئنه صلى الله عليه وسلم.