مواكب الأحزان الشيعية في ذكرى مقتل الإمام الحسين وسبي ذراريه (رضي الله عنهم جميعا) فارسية الأصل والمنشأ. كل شيء فيها، العويل والنواح واللحن ولطم الخدود ودق الصدور وخبط الجنازير كلها فارسية خزرية بما لا تخطئه الأذن والعين. المفردات التي ترددها الجماهير فقط عربية، لأن الموضوع كله يكون قابلاً للانكشاف منذ بداياته لو كانت المراثي والأدعية والقصائد تردد أيضاً بالفارسية. ربما، وقد يكون في شبه المؤكد أن تسعة وتسعين بالمائة من المسلمين، بمن فيهم الشيعة العرب يعتقدون أن التشيع في أُصوله تمذهب عقائدي ديني وليس حركة سياسية معارضة. حتى يومنا هذا يتظلم العرب الشيعة من تاريخهم المشترك مع إخوانهم العرب السنة محاولين تحميلهم مع كل طرفة عين وطلوع شمس ما يقال إنه جرى في حوار السقيفة وما حدث في موقعة الجمل وصفين والنهروان وحروراء، واستباحة المدينةالمنورة بجيش يزيد وقصف الكعبة المشرفة بالمنجنيق وصلب الصحابي الجليل عبدالله بن الزبير، وكأن تلك الأحداث والمذابح والأحزان في التاريخ الإسلامي القديم حكر تاريخي تحمَّله الشيعة دون غيرهم. بعد أن تضاف إلى تلك الأحداث جريمتا مقتل الإمام الرابع علي كرم الله وجهه وابنه أبي عبدالله الحسين مع ذراريه ومواليه رضي الله عنهم جميعا، تصبح الصورة كما يراد لها أن تلتصق في الذاكرة العربية الشيعية وكأنها صراع سني شيعي مذهبي بين الحق والباطل منذ البدايات، لكنها ليست كذلك البتة وعلى الإطلاق. من الذي أراد لهذا الخلط المتعمد أن يصبح عجينة صلصال يركب منها ويشكل صنماً أبدياً يتصارع حوله المسلمون؟. إنهم ودون أي تحرج الشعوبيون الأعاجم وفي مقدمتهم الفرس. في تلك الأزمنة التي جرت فيها تلك الأحداث الجسام، أي حوار السقيفة واستباحة المدينة وقصف الكعبة بالمنجنيق وصلب الصحابي الجليل عبدالله بن الزبير ووقائع الجمل وصفين والنهروان وحروراء ومقاتل الطالبيين، في تلك الأزمنة لم يكن هناك بعد شيء اسمه مذهب سني أو شيعي في الإسلام، وإنما فتن سياسية وأطماع عصبية وشخصية. كان كل شيء يدور حول الافتتان بأمور الدنيا بعد أن أريد لها التلبس بأمور الدين والصراع بين الحق والباطل. التشيع في أصوله الأولى لم يكن مذهباً عقائدياً يتمايز به أصحابه في العبادات والأحكام عن سائر المسلمين، بل كان تنظيماً سياسياً معارضاً هدفه مناصرة الإمام علي ضد معاوية، رضي الله عنهما وغفر لهما ما قد يكونان سبباه دون قصد للمسلمين من خلاف واختلاف فيما بعد. في نهايات الدولة الأموية دخل الأعاجم بكثافة وقوة إلى ذلك التنظيم السياسي المعارض، ليس حباً في علي ولا بغضاً في معاوية، وإنما بغضاً في الحكم العربي بكامله. تلك كانت فرصة كمنت الشعوبية في انتظارها عدة عقود حتى سنحت. في واحد من تلك الأيام كتب المعارض للحكم الأموي الإمام إبراهيم بن محمد بن علي الموصول نسباً إلى العباس بن عبدالمطلب (فهو بذلك من فرع هاشمي أيضا)، كتب إبراهيم هذا إلى أحد محازبيه في خراسان ما يلي: واستكثر من حولك بارك الله فيك من الأعاجم فإنهم أشد لنا نصرة وأكثر عدداً ممن يناصرنا من العرب. إحدى نتائج تلك الرسالة كان انضمام أبو مسلم الخراساني الفارسي إلى الحركة السياسية العباسية. ذلك الرجل كان داهية رقطاء في التخطيط والتنظيم، مما عجل بتقويض الدولة الأموية وانتقال الحكم إلى الهاشميين، لكن ليس إلى فرع الطالبيين من أحفاد علي وإنما إلى العباسيين من أبناء العمومة أحفاد عبدالله بن عباس. إذن لابد من الإدراك أولاً ثم الاعتراف بأن التشيع في أصوله عربي، وأنه تحزب سياسي معارض لم ينشأ كاختلاف في الأحكام والعبادات عن سائر المسلمين، وأن من فتح الباب للشعوبيين الأعاجم للدخول فيه هم العرب، ثم تحول الدخول إلى تدخل بين العرب والعرب، ثم أصبح تاريخاً دموياً متكرراً ما زلنا نعاني منه حتى اليوم. في الحلقة القادمة، إن سنحت الفرصة بإذن الله سوف أطرح بعض الأسئلة الحائرة عن أسرار جاذبية الفرس للإخوة العرب الشيعة، وذلك بصفتي كمواطن عربي مسلم لا يتحزب إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. لتحديد الانتماء بدقة أكبر يهمني في الختام أن أردد ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيها الناس إنما العروبة اللسان.