تقف مجتمعاتنا اليوم على مفترق طرق فيها عديد من الخيارات التي تهدد وجودها وبنيتها وتقودها إلى مسارات التمزق تحت شعارات براقة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب مثل حقوق الأقليات العرقية والدينية, حتى صرنا نسمع الوعظ والنصح من كل من هب ودب عن أساليب التعامل في المجتمعات المتعددة وكأن التعددية بدعة من بدع الزمان, ناسين أو متناسين بأن مثل هذه المشكلات ظهرت في مختلف الأمم وعلى مر العصور مع خلافات سطحية لا تمس جوهر القضية. فهذه حقيقة تثبتها دراسة تأريخ الأمم، ولأجل ذلك عدت إلى مجتمع المدينةالمنورة لدراسة السبل التي عالج بها الإسلام مثل هذه القضايا. عندما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب كانت العلاقات بين أهلها تتصف بالتمزق الشديد في النسيج الاجتماعي الذي أفقد المجتمع جميع أواصر التواصل الإنساني. فأصبحت الحياة أبعد ما تكون عن مفهوم العلاقات الإنسانية التي توفر للأفراد حاجتهم, وتفرق أهل المدينة إلى أجناس وأعراق وطوائف يرتاب بعضها من البعض الآخر, ويعيش على هواجس ومشاعر مختلفة تجاه الآخرين. وهذا شأن الجاهلية التي تسعى إلى تصنيف البشر إلى طبقات وأقسام حسب أشكالهم وألوانهم ومعتقداتهم وتعمل على خلق تناقضات وصراعات بينهم من أجل الحيلولة دون وحدتهم في الأمور التي تنفعهم. لقد كان المجتمع في يثرب يعاني من انقسامات حادة بين اليهود والعرب, وإذا كان العرب قد انقسموا بين قبيلتي الأوس والخزرج فإن اليهود زادوا على ذلك وتفرقوا إلى ثلاث قبائل هم بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع. وأدى ذلك الانقسام الاجتماعي إلى صراع مرير على زعامة المدينة بين الأوس والخزرج لفترة زادت على المائة عام حيث تحالفت بنو النضير وبنو قريظة مع الأوس وتحالفت بنو قينقاع مع الخزرج, وجراء ذلك فأن المدينة الغنية بما فيها من خيرات وثمار وموقع تجاري مميز كانت تعاني الفقر وغياب التنمية مثل عديد من مجتمعاتنا المتمزقة اليوم. لقد كانت غاية الرسول صلوات الله وسلامه عليه من الهجرة إلى المدينة هي تأسيس المجتمع النموذجي الذي يعيش فيه الجميع بأمن وأمان ومساواة بغض النظر عن المعتقد والأصل والمكانة الاقتصادية, ينتج عنها مجتمع يتساوى فيه الفقير والغني والرجل والمرأة والعبد والحر "كلكم لآدم وآدم من تراب". ولتحقيق هذا التصور قام الرسول بوضع وثيقة توضح الأسس السليمة للعلاقات بين جميع مكونات المجتمع أساسها أمران هما: العدل والمساواة, فقد نصت الوثيقة على أن إقامة العدل مسؤولية الجميع وأن تحقيق العدل يسمو فوق علاقات القبيلة والدم, حيث جاء فيها "وأن المؤمنين المتقين على مَن بغى منهم، أو ابتغى دَسيعةَ ظلمٍ، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا، ولو كان ولدَ أحدهم". وأما الثانية فهي المساواة بين الجميع بغض النظر عن المعتقد أو الأصل, "وأنّ يهود بني عوف أُمّة مع المؤمنين، لليهود دِينهم وللمسلمين دِينهم، مَواليهم وأنفسهم إلا من ظلَم وأثم، فإنه لا يُوتِغ (أي لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه". هذه المبادئ السامية لم تكن شعارات ترفع أو خطابات فارغة تلقى من أجل إسكات الجماهير, وإنما كانت قواعد نظمت حياة المجتمع وتربى عليها الناس على يد الرسول صلوات الله وسلامه عليه الذي كان يلاحظ ويقوّم كل اعوجاج بمنتهى الشفافية, ومن أوضح الدلالات على هذه المبادئ قصة "الدرع المسروقة" التي تبين شمول مفاهيم العدالة والمساواة وعمق التربية الإسلامية ودرجة المعاناة التي مر بها المجتمع في سبيل التخلص من أدواء الجاهلية ووضع هذه المبادئ موضع التنفيذ. فما هي قصة الدرع؟ يروى أن صحابياً من الأوس اسمه قتادة بن النعمان كان له عم اسمه رفاعة, وكان الأخير يمتلك درعاً غنمه من إحدى الغزوات التي خرج فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم. سُرق هذا الدرع ودارت الشبهات حول رجل من الخزرج اسمه بشير. سارع قتادة إلى إبلاغ الرسول باشتباههم ببشير وعبر عن مخاوفه من أن تثير هذه الحادثة فتنة طائفية بين الأوس والخزرج لكون المتهم من الخزرج ومبدياً في نفس الوقت قلقه من أن تؤدي هذه التهمة إلى شماتة اليهود بالعرب المسلمين. شعر بشير بالاتهامات وقرر التخلص من الدرع، فقام بدس الدرع المسروق في بيت يهودي اسمه زيد بن سمين، ولم ير أيسر من اتهام يهودي بذلك لان القبائل اليهودية في المدينة قد بدأت حربها على الإسلام الذي بدأ يكتسح الساحة ويفقدها مواقع نفوذها. وللتأكيد على ذلك طلب بشير من قومه أن ينقلوا إلى النبي خبر براءته ورؤيتهم زيد بن السمين ومعه الدرع المسروق الذي أخذه إلى بيته. بعث النبي مجموعة من الصحابة من بينهم محمد بن مسلمة ليفتشوا بيت اليهودي، وبعد البحث وجدوا الدرع مدفوناً في حديقة منزل زيد، وعلى اثر ذلك اقترح بعض الخزرجيين على النبي صلى الله عليه وسلم أن يدافع عن بشير ويبرؤوه في العلن، فصعد النبي على المنبر ودافع عن بشير معلناً براءته من التهمة، وقال لقتادة: جئتني من غير بينة تتهم أهل بيت من المسلمين. وفي تلك الليلة استراح أهل المدينة وسُرِىَّ عنهم باستثناء قتادة الذي آلمه قول النبي له وخوفه أنه قام بظلم إنسان بريء. ولكن الحادثة لم تنته عند هذا لأن جبريل عليه السلام نزل من السماء قبيل صلاة الفجر في اليوم التالي بالآيات 105-112 من سورة النساء ليخبر الرسول ببراءة اليهودي وأن بشير هو السارق. من الواضح من القصة بأن المبررات لتجاوز العدل كانت كثيرة, خصوصاً أن المظلوم لم يكن له العصبة القوية التي تدافع عنه, فكيف إذا كان من قوم يجهرون بالعداوة للدين, ولذلك كان الأمر الرباني واضحاً وصريحاً وشاملاً "إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا" (النساء-105). ومهما كانت المبررات فإن الآية كما في القصة توضح بأن إقامة العدل قضية ليست خاضعة لأية حسابات سياسية أو اجتماعية أو حتى عقائدية. إن أهمية إقامة العدل هي التي اقتضت أن يتنزل القرآن من السماء بتبرئة المتهم الضعيف الذي وقفت أمامه أكبر قبيلتين في المدينة واحدة تتهمه والأخرى تطلب منه القصاص. كما وان كشف الفاعلين بهذه الطريقة واللغة الشديدة التي استعملها القرآن معهم إنما هي من دلائل أهمية الموضوع وهي دروس لا تخفى عن اللبيب. إن هذه القصة ما هي إلا فصل واحد من تجارب نجاح عديدة في هذا المجال, ذلك أن المجتمع الذي أسسه الرسول صلوات الله وسلامه عليه طبق هذه المبادئ بحذافيرها, وأخرج الناس من أودية الظلم إلى نور العدالة, فأصبح المواطن يرفض الظلم بغض النظر عن مصدره, حتى صار القبطي يسير من مصر إلى المدينةالمنورة ليشتكي إلى أمير المؤمنين الظلم الذي لحق به على يد ابن والي مصر عمرو بن العاص، كما جاء في الرواية المشهورة عن أنس بن مالك رضي الله عنه إن رجلاً من أهل مصر جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم قال: عذت بمعاذ، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو يأمره بالقدوم إليه وأن يأتي بابنه معه. ولما قدم طلب الخليفة إحضار المصري وأمره بأخذ السوط وضرب ابن عمرو، وعمر بن الخطاب ينادي: اضرب ابن الأكرمين، قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر بن الخطاب للمصري: ضعها على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني، وقد اشتفيت منه، فقال عمر بن الخطاب لعمرو قولته المشهورة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني." إن تحقيق العدل والمساواة في واقع المجتمع بهذه المستويات هي التي جعلت من حياة المدينة النموذج الذي يطمح إليه البشر في كل مكان وصاروا يتسابقون لتطبيق مبادئه في واقعهم اليومي, فكانوا يتحينون الفرص لوضع هذه المبادئ موضع التنفيذ, وبالتالي عندما حانت أول فرصة لذلك رأينا النصارى في العراق ومصر يقاتلون مع المسلمين في سبيل إزالة أنظمة الظلم وإحقاق العدل والمساواة بين الناس. كما وأن المسلمين أخذوا الأوامر القرآنية بالنهي عن الظلم وصاغوا منها قوانين تحكم حياتهم, فكان القانون الذي وضع صياغته العالم ابن خلدون وأسماه "قانون هلاك الظالم", ثم جاء بعد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ليضع صياغة أخرى تصل بالقضية إلى مستويات أعلى بقوله "إن الله لينصر الدولة الكافرة العادلة على الدولة المسلمة الظالمة". واليوم نجد شعوبنا وقد صارت في مؤخرة الركب بسبب تخليها عن مبادئها والعودة إلى عادات الجاهلية الأولى التي تحكم على الناس ليس وفق الجوهر بل حسب مظاهر سطحية. وقد أخذت أمم أخرى مبادئ العدل والمساواة بين الناس وحققت آفاقاً من التقدم لم يسبق لأحد وصولها حتى صارت تبيع علينا مبادئنا من جديد. إن العودة إلى الأصول الأولى المتمثلة بالعدل والمساواة هي خط الدفاع الأهم والضامن الوحيد للنجاح في مواجهة المشاريع الطائفية والعرقية التي تهدد وحدة مجتمعاتنا, ومن ثم تتوفر البيئة الصالحة لننطلق إلى تحقيق نهضة تنموية تكون المثال لشعوب الأرض مثل ما فعل سلفنا الصالح في بناء مجتمع المدينةالمنورة. * السفير العراقي في الرياض