حتى تنتظم أمور الحياة العلمية والإدارية والأُسرية والمعيشية، جعل الله لكل إنسان ما يناسبه من الحقوق والالتزامات، وأمر بإعطاء كل ذي حق حقه، قال تعالى وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ، وقال جلّ وعلا: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ .... ، ونهى عن أكل مال اليتيم بغير حق، أو التعدِّي على حق الغير بغير حق ... وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ، وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنّ الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)، وأقرّ عليه الصلاة والسلام سلمان الفارسي حين قال لأبي الدرداء - رضي الله عنهما -: (إنّ لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه)، فدلّت النصوص الشرعية على وجوب الوفاء بالحقوق الثابتة لأصحابها. والناظر في واقع مجتمعنا اليوم يجد البون الشاسع بين ما تقتضيه هذه الأدلّة وعمل من شغلت ذمته بحقوق غيره، فكل مسئول قد تحمّل أداء مسئوليته أيّاً كان نوعها، فلدينا من يجيد أهلية التحمُّل ولكن لا يجيد أهلية الأداء، والله تعالى يقول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ... وإنْ أدى على غير الوجه الأكمل. والحق في الشريعة الإسلامية هو من اختصاص صاحبه، وله تحصيله بالطرق الممكنة، وقد قيل (ما يضيع حق وراه مطالب). وصور التعسُّف في استعمال الحق من واقع المجتمع كثيرة جداً، نظراً لكثرة الحقوق المناطة بأصحابها، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 1 - حق تربية الأولاد على آبائهم وأمهاتهم التربية الصحيحة، ومع ذلك نسمع الكثير من حالات التعسُّف في استعمال هذا الحق، وهو ما يسمّى اليوم بالعنف الأُسري، الذي تناوله علماء التربية بالبحث والدراسة لمعرفة الأسباب وطرق العلاج. 2 - حق الطاعة لمن ولاّهم الله أمرك، كطاعة ولي الأمر، وطاعة الوالدين، وطاعة الزوجة لزوجها، ونسمع في وقتنا الحاضر صوراً من التعسُّف في هذا الجانب، فهناك من خرج على ولي أمره، وهناك من يعق والديه، وهناك من تترفّع على زوجها وتعصيه، ومن المعلوم أنّ أداء حق الطاعة لهؤلاء ومن في حكمهم واجب شرعاً، وعليه فإنّ التعسُّف فيه ومنعه محرّم بدلالة النصوص من الكتاب والسنّة. 3 - حق القوامة، وهو حق للزوجة على زوجها، وهو من باب المعاشرة بالمعروف، ومن الأزواج اليوم من ضيّع هذا الحق أو بالغ فيه حتى خرج به عن المألوف، وكل ذلك يسمّى تعسُّفاً في استعمال الحق، لأنّ التعسُّف يكون باستعمال الحق في غير المشروع أو الزيادة في المشروع على وجه الإضرار والمكابرة. فالقوامة تعني المعاشرة بالمعروف والرعاية والحفظ، ولا تعني التسلُّط والاستبداد كما يفعله بعض الأزواج. 4 - حق المواطن لدى الجهات الخدمية التي كلفتها الدولة بخدمته، كحقه في إدارة المرور أو الجوازات أو الأمانة أو الصحة أو الزراعة أو العمل أو التعليم. وهذه وغيرها كثير من الحقوق العامة التي يجب أداؤها لمستحقيها بإخلاص، وعدم التهاون أو التكاسل في ذلك، ولكن - ومع الأسف الشديد - يوجد صور من التعسُّف في استعمال هذا الحق، ويتضح ذلك من خلال تعامل الموظف المسئول مع المواطن صاحب الحق، إما بالمماطلة في خدمته أو بعدم حسن الأدب معه، وأحياناً قد يضيع الحق بسبب التعسُّف فيه. ومن صور التعسُّف في هذا النوع من الحقوق استخدام المحسوبيات في تقديم الخدمة على حساب إقصاء الآخر، وهذا من أشد الأمراض الأخلاقية فتكاً بالمجتمع. هذا غيض من فيض وإلاّ فصور التعسُّف في المجتمع كثيرة، والوقاية خير من العلاج، فالتقوى ومحاسبة النفس والإخلاص وحياة الضمير مع الخوف من الله الذي لا تخفى عليه خافية، خير وقاية من ذلك كله، فهل من مدّكر المعهد العالي للقضاء [email protected]