لا تجد فيما أباحه الله، إلاّ ووراءه مصلحة، ولا في شيء حرمه الله، إلا لما وراءه من مضرّة، هذه المنافع، وتلك المضرات منها ما هو ظاهر للإنسان العادي، في نفسه أو في مجتمعه، ومنها ما لا يدركه إلا ذوو البصيرة، والعمق العلمي، ومنها ما يدركه الإنسان بالمقارنات وبالتبصر، ومنها ما هو خفي يقصر دونه علم الإنسان، ولكنه جاء لحكمة ظاهرة أو باطنة، ألم يقل سبحانه في أكثر من موقع من كتاب الله: {إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون} [النحل 74]. فالعبادات فيها مصالح عديدة، ومنافع كثيرة.. دنيوية وأخروية.. فالدنيوية مما تصلح بها أمور الفرد والجماعة، والأخروية فيها السعادة الأبدية والفوز برضا الله وجنته. والصوم من هذه العبادات، ذات المصالح المتعددة، والمنافع التي لا تحصى.. واستكمالاً لما بدأناه في الحديث السابق عن هذه الفوائد التي ترجع على الفرد في المجتمع الإسلامي في جسمه نوضح منها ما يلي: يقول الله سبحانه عن عدم الإسراف في الطعام والشراب: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأعراف 31]، ذلك أن الإفراط في الطعام والشراب، ينتج عنه السمنة والسمنة تتسبب في كثير من الأمراض منها زيادة الدهنيات في الجسم، وضيق الشرايين والكلسترول والضغط وآلام المفاصل، وغيرها من الأمراض، فجعل الله الصيام: فرضاً أو تطوعاً، قاضياً على الإسراف في الطعام والشراب الذي لا يحبه الله، وفي هذا رعاية صحية، ووقاية طبية عظيمة الأهمية، ذلك أن المعدة بيت الداء. وفي بلاد الغرب، ما رأوا طبيّاً أحسن في العلاج للسمنة من ربط المعدة، بحيث يقلّ استيعابها للطعام، فيكون ذلك حجاباً عن الشَّره، في ملذات المشارب والمطاعم.. والعلاج بالصيام المراد به وجه الله خير وأنفع، فمع كونه عبادة وطاعة لله يؤجر عليه الإنسان، فهو علاج سبق الطب الحديث، بل إن علامات الطب الحديث، لها انعكاسات جانبية، وآثار عكسية، أما الصيام فهو مأمون العاقبة صحياً، وفوائده التي لا تحصى ظاهرة في كل موقف. بل قد بدأوا في بلاد الغرب والشرق، يعالجون أمراضاً بالصوم، مثلما فتح قبل عدة سنوات طبيب فرنسي مستشفى في إحدى ضواحي باريس لعلاج أمراض الروماتيزم والمفاصل بالصلاة والوضوء في أوقاتها الخمسة.. ومن الأمراض التي بدأوا يعالجونها بدل العقاقير، وما وراءها من مضار، أشياء أثبت الطب عندهم أن للصيام أثراً مباشراً في شفائها: 1. ضغط الدم المرتفع، إلا إذا كان ناتجاً عن خلل الكليتين. 2. مرض السُّكَّري، فإن كثيراً من الأطعمة كالنشويات والحلويات بأنواعها، والسكريات تزيد السكر في الدم، وتنظيم الطعام وتخفيضه بالصيام، يحفظ الله به التوازن في الجسم. 3. ومثل ذلك زيادة الدهن في الدم، الذي ينتج في الغالب من كثرة أكل اللحوم الحمراء، والأطعمة الدسمة، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، لما رأى رجلاً يداوم على شراء اللحم، ليكون مع طعامه اليومي وبكثرة، ضربه بالدّرة، وقال: إن للحم ضراوة كضراوة الخمر، يريده بذلك أن يخفف منه، وهذا هو منهج الأطباء في هذه الأزمنة، برغبتهم من مرضاهم التخفيف من اللحوم الحمراء، واستبدالها إذا كان ولا بدّ باللحوم البيضاء، لقلة الدهنيات فيها. 4. أمراض القلب، وخاصّة عندما تأتي الجلطة، فإن من علاجها الصيام. 5. والأمراض المعدية النتنيّة.. وما يشابهها من الأمراض التي تخف وطأتها بالصيام، مع قلة الطعام وتخفيف الوجبات. 6. أما أهم علاج لكبح فورة الطاقة الجنسيّة عند الشباب فقد أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل 1415 سنة حيث أخبر الشباب غير القادرين على مؤنة الزواج، وأوصاهم بوقاية تحميهم من الوقوع في الحرام، فقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أحصن للفرج، وأغض للبصر، ومن لم يستطع فعليه بالصيام، فإنه له وِجاء» وذلك أن الصيام يعرفه الطب الحديث كعلاج لقهر الشهوة لدى الشباب، مما يعفّهم عن الحرام والوقوع في مسبباته. 7. أما قوة الشخصية عند المرضى، ضعاف الشخصية، فقد اكتشف علماء النفس، أن الصيام خير سبيل لتقوية العزيمة عند المرضى، وتعايشهم مع المرض، رضاء بقضاء الله، واحتساباً لما عنده. وغير هذا من الفوائد الشخصية، التي تظهر بين حين وآخر عند المختصين، ومتابعة دور الصيام صحياً على الصائم ونفسياً. أما الفوائد الروحية: فتبرز في أمور كثيرة يطمئن إليها القلب، وترتاح معها الأعصاب، في مثل: 1. طاعة الله جل وعلا، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن النفس البشرية تنقاد للأنظمة والأوامر، ولما علم المسلم أن صيام رمضان قد فرضه الله سبحانه بنص القرآن الكريم، وحثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشدد في فرضيته، ووجوب احترام الصوم بكل معنى الاحترام، وعدم خدشه بما يضرّ بفرضيته، فلا يسع كل مسلم ومسلمة وإذا لم يكونوا من أهل الأعذار إلا الانقياد وتنفيذ الطاعة للخالق سبحانه، قولاً وعملاً: سمعنا وأطعنا. والنفس البشرية السويّة، بطبيعتها ترتاح للطاعة، محبة وفطرة، لأنها تحب النظام، والطاعة في قائمة النظام. 2. ومثلما أن الإنسان يحب الانتصار والغلبة على خصومه، فكذلك الصيام لمحبة المسلم له وتشوّقه لبلوغ رمضان، فإنه يشعر بقوة العزيمة، وقهره لنفسه، بكبحها عن الملذات المرغوبة إليه: الطعام والشراب والنكاح.. وما ترك ذلك إلا من أجل الله سبحانه امتثالاً، قوّى العزيمة بقهر النفس، والتغلب على الهوى، لأن الصيام قد جعله الله سبباً في التّغلب على نزعات النفوس، وكبح جماحها، فهو خير مؤدب للنفس البشرية.. حيث يمنعها أيضاً من الغيبة والنميمة وقول الزور والبهتان، وغيرها من الطباع السيئة يقول صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به وفي رواية والغيبة والنميمة، فليس لله حاجة في أن يدع صلاته وصيامه». وعن المرأتين اللتين كادتا تموتان من الجوع والعطش وهما صائمتان، وأخبر عنهما صلى الله عليه وسلم، فأمرهما بأن تقيئا في إناء، فقاءتا قيحاً ولحماً عطبياً ودماً، فقال عنهما صلى الله عليه وسلم: «لقد صامتا عما أباح الله، وأفطرتا على ما حرم الله، جلستا تأكلان لحوم الناس، فلو ماتتا على ذلك لدخلتا النار». 3. ومن فوائد الصيام: أنه يدعو إلى كمال مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق، فالصائم: يعف لسانه عن الخوض فيما لا فائدة فيه، ويغض البصر عن المحارم، وينهى عن الفواحش والمنكرات.. ولذا يحس الصائمون على مختلف طبقاتهم ودياناتهم باحترام الناس لهم، وقد حصل معي، ومع غيري هذا الشعور عندما أدركنا الصيام في بلاد الغرب، إذْ لمست تقديراً للصائم، واحتراماً لمشاعره في المأكل والمشرب، وفي إجابة المطالب. وهذا من مكارم الأخلاق. 4. أما الإنسان في قرارة نفسه، فإنه عندما يصوم، يشعر بالنشوة، وبالروحانية التي تزيده سعادة، لوجود رصيد مدّخر له، عند الله يوم القيامة، لما ورد عن رسول الله صلى الله وسلم، من أحاديث كثيرة في فضل الصوم، وما وعد الله به الصائمين من أجور عظيمة، وما خصّهم به، من عدم الظمأ في المحشر وما فيه من شدة وعطش، ومن أمن والناس ذلك اليوم في خوف شديد وفزع، وما وعدوا به من باب اسمه الريان من أبواب الجنة لا يدخل معه غير الصائمين، فإذا تكامل عددهم أغلق، وكرامتهم على رؤوس الأشهاد في يوم الجزاء والحساب. ألا ترى أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا، إذا وعد برصيد مادي، ولو كان قليلاً، لم يحسب له حساباً، أو هدية، كيف تنتعش روحه، ويستولي عليه الفرح، الذي يكاد يقتله من شدته، وما أعدّ الله للصائم من رصيد أخروي أثمن وأغلى. أما الفوائد الاجتماعية، فمع كثرتها وتعدد مصالحها إلا أن منها: 1. الصائمون يحسّون بالمساواة جميعاً بين المسلمين في هذا الصيام المفروض، فالحاكم يصوم ويحس بآثار الصوم مثلما يصوم، ويحس المحكوم، فلا أوامر خاصة، ولا فروقات: الزمن للجميع واحد، ووقت الإمساك، ووقت الإفطار أيضاً للجميع واحد، والأوامر والنواهي لا يتميز فيها، فلا غني له خصوصية، ولا فقير يتحمل أكثر من غيره، بل إن من الفوائد أن الغني، وذا الوجاهة، يؤدبه الصيام، لكي يبحث عمن يتناول معه الإفطار، ويشاركه الطعام، حتى يكسب بذلك الأجر الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فطّر صائماً، بأنه له مثل أجره دون أن ينقص من أجر الصائم شيء. 2. وما ذلك إلا أن الشعور بالجوع والعطش، يدفع الغنيّ إلى الشعور بحاجة الفقير، والصدقة عليه، فيكون بذلك شهر رمضان، قد أدب الصيام فيه النفوس المسلمة إلى الترابط الاجتماعي، فكان فرصة للعطاء، لتتحسن حال الفقير، ويسدّ الخلل في وضعه المعيشي، بما جعله الله له حقاً في أموال إخوانه المسلمين، الذين تجود أيديهم طواعية بالعطاء، وألسنتهم بالسؤال والاستقصاء، عمن تحقّ لهم المساعدة. 3. ويختم شهر رمضان كل صائم بصدقة الفطر، التي هي طهرة للصائم، ومؤنة للفقير، تكفّه وأسرته عن السؤال في يوم العيد الذي هو فرح وسرور، وتبادل للتحايا ونبذ للشحناء، في مودّة وصفاء. وصدقة الفطر واجبة على كل مسلم ومسلمة، ومن يعوله ولزمته نفقته في أكثر شهر رمضان وعلى الصغير والكبير، والذكر والأنثى والحر والعبد، تدفع للفقراء من قوت البلد، إحساناً من الله إليهم، وطعمة خصّهم الله بها. 4. علاوة على الشعور الاجتماعي بالتعاطف والتراحم، وأن المجتمع الإسلامي، كتلة واحدة يهتم القوي بالضعيف، ويسدّ الغني خلل الفقير، فإن الصائمين يشعرون بطهارة المجتمع من الدنس والمنكرات، ويحسّون بالمودة والتراحم، وعودة المسلمين إلى ربهم في شهر رمضان: الأنيس بلياليه، المتميّزة قلوب الصائمين فيه بالرقة، وحب الإحسان، لما في هذا الشهر من روحانية، يضفيها على قلوب الصائمين. فكم هدى الله للإسلام بسبب هذا الشعور من البشر، ممن تأثروا لقربهم من المسلمين بهذا الإحساس، الذي قلب الطباع، وغير كثيراً من العادات، وأحدث إحساساً فيّاضاً، بحب الخير لذات الخير، وبغض الشر خوفاً من الشرّ وآثار الشرّ. إن من رحمة الله بعباده، أن هوّن عليهم الصيام، ويسّر عليهم الأمور الحسنة، المعينة على جلب المصالح للفرد والجماعة، ونبذ المفاسد، وما وراءها من الدواعي والمسببات. فكانت فرص الصيام طوال العام تطوّعاً ميسّرة في جميع الأوقات.. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أمته عن فضائل الصوم، والأيام التي لا تصام، كالعيدين لأنهما أيام فرح وسرور، وصوم يوم عرفة للحاج، لكي يتقوّى على أداء مناسكه، ورغب في صيام ستة أيام من شوال، على أن يؤدي من عليه قضاء، ما عليه أولاً، ثم يبدأ في السُنَّة، لأن الفرض أولى بالأداء من السُنّة.. وأفضلية صيام ست من شوال، لأنها تلي رمضان والصائم قد تعوّد عليه، وتطبعت نفسه عليه، وحدّدت هذه الأفضلية بمصلحة كبيرة، إذْ يقترن هذا الصيام، المتبع لصيام رمضان بصيام الدهر كله، كنتيجة في الجزاء، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الكريم: «من صام رمضان، واتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر». وعلّل هذا: بأن الحسنة بعشر أمثالها كما جاء في الحديث الشريف فيكون الصائم لرمضان، كأنه صام عشرة أشهر، وستّ من شوال بستين يوماً، وهي شهران، فيصبح كمن صام بالأجر السنة كلها. كما يظهر من الفوائد والمصالح في الصوم: أن شهر رمضان، عندما تظلُّ سحابته سماء المجتمع الإسلامي، أن المجتمع كله، تبرز فيه مظاهر لا توجد إلا مع قدوم هذا الشهر، فاحرص أخي المسلم على أن تستمر معك، تلك السجايا الحميدة، التي تطبعت بها نفسك في رمضان، لتصبح خلقاً لك في غير رمضان، وكأن شهور السنة كلها في رمضان.. ومنها: اهتمام الناس في هذا الشهر بإحصاء أموالهم، وإخراج زكاتها التي فرضها الله، وتلمّس أصحابها الثمانية، الذين بيّنهم الله في سورة التوبة، لإعطائهم ما فرضه الله لهم، وفي هذا نقاوة لمال المزكي، وبركة عليه: «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» [النور 33]. إن فرص الخير متاحة للمسلم، بما وراءها من أجر وطاعة لله، من توالي الخير بالصيام، فبعد ست من شوال، تأتي عشر ذي الحجة، ثم يوم عرفة، الذي عظّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أجره لمن لم يحج لأن من مكانته أن الوحوش تصومه.. ثم يأتي يوم عاشوراء الذي رغّب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده خالفوا اليهود، ثم الترغيب في ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم الاثنين والخميس، وكل هذه نوافل ستفيد ويؤجر من صامها. ولا ننس ما حقق الله للإسلام من انتصارات في المواقع الحربية، ففي عهد رسول الله كان في رمضان شهر الصوم، أعظم انتصارين أظهر الله بهما الإسلام، واندحر الكفر وأعوانه،: في معركة بدر الكبرى في يوم 17 رمضان، وفتح مكة الذي تم في رمضان، ولهذا نظائر في سجل التاريخ الجهادي الطويل، حيث يخشاه أعداء الإسلام. وأعظم الفوائد، يجنيها المسلم المحافظ على قيام الليل، في العشر الأواخر من رمضان، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدّ المئزر ويوقظ أهله، ويحثهم على الصلاة وكثرة التهليل والاستغفار، وفي العشر التماس ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي فضل من الله، خصّ بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يجب على كل مسلم، حريص على أن يوفى أجره كاملاً، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أن يقوم الليالي كلها، فهو قمن بأن يدركها، ويوفقه خالقه لذلك الأجر، الذي ما فوقه مصلحة، ترنو إليها القلوب. ومع ختام هذاالشهر، ولو في آخر ساعة منه، يكون مسك الختام التوبة إلى الله من المعاصي، والإنابة إليه بفعل ما يرضيه، فإن الإنسان لايخلو من الخطأ والتقصير، لأن سمة البشر الخطأ، وخير الخطائين التوابون؛ والتوبة تعني الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على ما فات، والله يقبل التوبة من عباده إذا صدقوا فعلينا جميعاً: أن نستغفر الله ونتوب إليه، من الذنوب والخطايا.. فما أكثر الفرص في رمضان، وما أعظم المصالح والفوائد التي يجنيها الصائمون، وهي فرص يجب أن تغتنم، وهبات من الله يجب أن يؤخذ منها بنصيب وافر. الإسكندر وملك الصّين: ذكر النويري خبرهما نقلاً عن ابن مسكويه في كتابه المترجم بتجارب الأمم: أن الإسكندر لما انتهى إلى بلاد الصين، أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره،فقال: هذا رسول ملك الصين يستأذن في الدخول عليك، فقال: ادخله، فلما دخل وقف بين يديه وسلّم، ثم قال: إن رأى الملك أن يستخليني فعل، فأمر الأسكندر من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا وبقي حاجبه، فقال: إن الذي جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر الأسكندر أن يفتّش، ففتّش، فلم يجد معه سلاحاً، فوضع بين يديه سيفاً مسلولاً، وقال: قف مكانك وقل ما شئت، وأخرج الحاجب، ومن كان قد بقي عنده، فلما خلا المجلس قال: أنا ملك الصين لا رسوله، جئت لأسألك عما تريد، فإن كان مما يمكن عمله، ولو على أصعب الوجوه، عملته، وأغنيتك عن الحرب، فقال له الإسكندر: وما الذي آمنك مني؟! قال: علمي بأنك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة ولا مطالبة بثأر، وأنك تعلم أنك إن قتلتني، لم يكن ذلك سبباً لتسليم أهل الصين إليك بلادهم، ولم يمنعهم قتلي من أن ينصّبوا لأنفسهم ملكاً غيري، ثم تنسب أنت إلى الغدر، وضد الحزم، فأطرق الأسكندر وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له: إن الذي أريد منك ارتفاع مملكتك ثلاث سنوات، عاجلاً ونصف ارتفاع مملكتك لكل سنة. قال: هل غير هذا؟. قال: لا. قال: قد أجبتك، ولكن سلني كيف تكون حالك؟ قال: كيف تكون حالك؟ قال: أكون أول قتيل محارب، وأول أكيلة مفترس، قال: فإن قنعت بارتفاع سنتين؟. قال: أكون أصلح قليلاً، وأفسح مدّة، قال: فإن قنعت بارتفاع سنة؟ قال: يكون في ذلك بقاء ملكي، وذهاب جميع لذّتي. قال: فإن قنعت منك بثلث الارتفاع، كيف تكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء، ومصالح العباد، ويكون الباقي لجيشي وسائر أسباب الملك. قال الإسكندر: قد اقتصرت منك على هذا فشكره وانصرف. فلما طلعت الشمس، أقبل جيش الصين، وقد طبّق الأرض، وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك، وتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدوا بعد الأمن والطمأنينة إلى السلم، فبينما هم كذلك، إذ طلع ملك الصين، وهو راكب، وعليه التّاج، فلما تراءى الجمعان نظر الإسكندر إلى ملك الصين، فظنّ أنه حضر للحرب، فصاح به: أغدرت؟ فترجل ملك الصين وقال: لا والله، قال: فادن مني، فدنا منه، فقال له الإسكندر: ما هذا الجيش الكثير؟ فقال: اني أردت أن أريك إني لم أطعك من قلّة وضعف، ولكني رأيت العالم العلويّ، مقبلاً عليك ممكّنا لك، ممن هو أقوى منك وأكثر عدداً، ومن حارب العالم العلويّ غُلِب، فأردت طاعته بطاعتك، والتذلل له بالتذلل لك، فأجابه: ليس مثلك من يسام الذّلّ، ولا من يؤدّي الجزية، فما رأيت بيني وبين الملوك من يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك.. فبعث إليه ملك الصين، ما قرر معه، وانصرف عن الصين. نهاية الأرب للنويري 15: 250 252.