إن التغير الذي حدث في البناء الاجتماعي للمجتمع العربي نتيجة انتشار عناصر الثقافة الغربية وغير الغربية عن طريق الاحتكاك أو الاستعارة أو النقل المباشر وغير المباشر أو غير ذلك، لم يقابله تغير مماثل في القيم والمعايير الاجتماعية التي بقيت في أغلبها جامدة بلا تغير أو انها في أحسن أحوالها تكابر وتبالغ في الالتزام والاستمساك بالكثير من العناصر الثقافية التي تؤدي في الكثير من الأحيان إلى خلق البلبلة في ذهن الناشئة ومن ثم إلى إيجاد نوع من الاغتراب في الثقافة الأصلية إن هذا الجمود في البناء الفوقي لثقافة المجتمع قد نتج عنه تحجر أغلب أساليب التنشئة الاجتماعية بحجة الالتزام بالعادات والتقاليد الشعبية والتي كان عليها الآباء والأجداد، وذلك دون النظر في مستجدات العصر والبحث عن المفيد في العناصر الثقافية من المجتمعات الأخرى وذلك لتنمية قدرات الفرد (الطفل) وإبقائه على صلة مستمرة مع مجتمعه ودفعه نحو الفاعلية القصوى للإنتاج والإبداع والنظر إلى الحياة بمنظار الوجود يساوي الإنتاج. إن عجز الأسرة عن تبني سياسات وطرائق منهجية للتربية والتنشئة، أدى إلى عجز الأسرة ومن ثم المجتمع عن إشباع الحاجات العضوية والاجتماعية والنفسية لأطفاله (الأفراد)، ووضع الأطفال في بعض الأحيان وضع المظلومين، فأصبحوا فئة مظلومة، ضحية الجهل وسوء المعاملة، أو لأسباب اقتصادية أو لعامية الآباء والأمهات أو لغيرها من الأسباب. ويمكن القول إن هذا الوضع الاجتماعي الذي يشهده الطفل (الفرد) في المجتمع إنما هو نتيجة طبيعية، وان كانت مرضية، للظروف الحالية التي تعيشها الأسرة العربية. والتاريخ يحدثنا عن ان الأسرة العربية إنما تهتم ببعض الأفراد دون البعض الآخر وبعض الفئات من الأسرة دون الآخر، ومن ثم تكون النتيجة هي اهتزاز الثقة بالتربية الأسرية ومن ثم المجتمعية، والنتيجة تكون ان التنشئة الاجتماعية بمفهومها السابق الذكر لايلبي الاحتياجات المتعددة للفرد (الطفل) مما يجعله يبحث في تراث وثقافة الغير عمّا يمكن ان يعينه على مواجهة المشكلات الاجتماعية المتنامية وفقا لما جاء مع الانفتاح على المجتمعات والعولمة ومن ثم استساغة معظم ما يطرح للفرد (الطفل) من حلول لمشكلات الحياة. وهنا يمكن القول ان التراث الإسلامي والعربي غني جداً بما يحوي من عناصر توجيهية للفرد و(الطفل) غير ان هذا التراث يحتاج إلى محاولة تقنين وإعادة فهم وقولبة ليناسب العصر ويتناسب مع معطيات الحياة المتجددة للفرد (الطفل) في الوقت الحاضر. كما يمكن القول إن التربية الدينية المبنية على أساس فهم الفرد (الطفل) كما هو والبحث في عقليته والأخذ به نحو البناء السلوكي الصالح وتنمية المسؤولية لديه تجاه الدين والوطن والأسرة، دون التزمت أو التشدد في المظهر أو الفكر أو السلوك أو أي من المعطيات التي فيها للشرع أو العلماء (الدين، التربية، الاجتماع، غيرهم) مساحة من حرية الحرك، أقول ان هذه التربية هي التي يمكن ان يكون العماد الصحيح في التنشئة الاجتماعية، ومن ثم تكون هذه التنشئة قادرة على الحل المنهجي للمشكلات الاجتماعية التي تواجه الفرد (الطفل) خلال حياته، ومن ثم يكون وهذا الوضع الذي يعيش فيه الأفراد (الأطفال) من تنشئة اجتماعية سليمة يؤدي إلى بلوغ المجتمع مقاصده وغاياته، وتحقق هذه التنشئة أهداف المخططين وولاة الأمر. تنمية الشخصية الواثقة في المجتمع في ظل الانفتاح الثقافي واختلاط الثقافات وتقدم وسائل الاتصال المختلفة وتقريب الشعوب أصبح العالم أشبه مايكون بالقرية الصغيرة التي يعلم من يسكن شمالها تماماً مايحدث، وقد يتنبأ بما سيحدث في جنوبها. وفي ظل ازدياد نمو الحضرية والتحضر، فإن النظرة إلى قضية الطفل العربي ينبغي أن تتجاوز التوجه التقليدي الذي كثيراً ما تباع في إطاره. فالاهتمام بشخصية الطفل خصوصاً وقطاع الطفولة بشكل عام يستوجب ان يتوافق مع النهوض بالوضع الأسري والمجتمعي الذي يعتبر مسؤولاً في تكامله عن نمو الطفل وتكوينه وصيانة واقعه الاجتماعي والثقافي ومحدد شخصيته الذاتية ذلك ان عملية تنمية الشخصية الواثقة من نفسها وتنشئتها وتأهيلها للمستقبل عملية تفاعلية دينامية يتكامل بتحقيقها البعدان الأسري والمجتمعي. ومن ثم ينبغي توجيه الاهتمام من حيث الأهداف والغايات والوسائل إلى هذه البيئة الاجتماعية المتكاملة وجعلها على درجة في الكفاية والقدرة على القيام بدورها تجاه تنمية الطفل العربي وذلك لأن قضية الطفولة في الوطن العربي قضية تنموية وحضارية في القيام الأول. وهذا يعي أنه لابد من أن تصبح قضية تنمية الطفولة في وطننا العربي هدفاً استراتيجياً في جهود التنمية الشاملة واختباراً وممكناً لنمو الوعي الحضاري القومي. وتأسيساً على هذا نستطيع القول، إن قضية الطفولة في الوطن العربي ليست قضية برامج قطاعية توجه لقطاع الطفولة فحسب، أو مجرد السعي إلى إشباع حاجاتها الأساسية من الخدمات المؤسسية، بقدر ما هي قضية وعي حضاري بحاجاتها وحقوقها. وتنمية متكاملة ومتوازنة للبيئة الأسرية والمجتمعية ووعاء تنشئة الطفل العربي وتكوينه وينبغي ان يكون الوعي الحضاري وعياً موصولاً ينطلق من الأسرة نفسها، إذ ان الأسرة ليست مجرد رابطة مكانية أوزمانية تحكمها الموانع والنواهي والتحريم، بل يجب ان تسود علاماتها العاطفة والحنان والتقبل والأمن الاجتماعي والتكافل والتآزر والترابط والتماسك والعضوي بما يمكّنها من أداء وظيفتها في التنمية والتطبع الاجتماعي. 'جامعة الملك سعود / قسم علم الاجتماع.