لأن الشعر (انتظار ما لا يجيء) فالشاعر الحقيقي الذي يقف على قارعة قصيدة قد ترسل إشارة بالوصول ولا تصل وقد تعده غيومها بالمطر وتستعصي على الهطول، ولأن القصيدة الحقيقية لا تتحقق إلا حين تقرر هي أن تجيء ومن تلك حالة مع القصيدة هو في حالة مضنية من الترقب والشوق واللهفة بعد زمن من الحرمان والعطش إلى نص رائع يبعث البهجة والفرح والسرور والربيع في النفس. والمبدعون من أمثال ذلك الشاعر حين تصلهم القصيدة يعلم كل من يحبون قصائدهم بوصولها إما بقراءتها لهم أو بأثرها على ملامحهم أو بعطرها العالق بحروفهم وحديثهم ليجيء بعد كل هذا العناء والترقب والفرح بالوصول من يطلب من الشاعر الانفراد بنشرها الذي قد يكون امتداداً للفرح الغامر الذي أغرق الشاعر ومن حوله حين تقع القصيدة في يد محرر حريص على عمله ألا يخرج إلى الناس إلا بعد مراجعة صادقة لكل ما ينشر لديه وندرة الخطأ المطبعي العابر في منبره. ولكن الكارثة الحقيقية والقتل الجائر للشعر حين تكون القصائد في نظر محرر آخر مجرد ملء فراغ يحتاج إلى تعبئة وليذهب الشعر وقائله إلى الجحيم فليس من مهمته -في نظره- أن يكون مصححاً أكثر من المصحح ويراجع مادة صفحته أو مطبوعته تاركاً تلك المهمة للصدفة البحتة في صحة طباعة المادة من عدمه وهنا لا تحترق القصيدة لوحدها وإنما هي وصاحبها.