بعد أنْ انتهى خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام من بناء البيت الحرام، أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج، ليبلغهم ما فرض الله عليهم من الحج الذي جعله الله ركناً خامساً، من أركان الإسلام بقوله الكريم: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج 27 - 28)، قال: كيف أبلغ وأين يبلغ صوتي؟ وقيل له: عليك الآذان وعلى الله التبليغ، فصعد جبل أبي قبيس فنادى: أيها الناس إن الله قد فرض الحج فحجوا. فكان للحج منافع وفضائل، فلا تتحقق الفضائل ولا تبرز المقاصد من الحج، التي يحسُن بالحاج أن يأخذها درساً، ويسير عليها كمنهج يتأصل في أعماله وتصرفاته، علاوة على العقيدة والشعور بقدسيته، إلا إذا تعمق في فهم المقاصد التشريعية، وما يتحقق من مصالح، لأن الحج هو العمود الخامس في خيمة الإسلام، باهتزازه يتأثر هذا البناء كله، وبتعمد الإخلال به، أو تركه كلياً بدون مبرر شرعي، ينهدم هذا البناء وقد يُخرج من ملة الإسلام. ذلك أن أركان الإسلام خمسة، خامسها الحج لمن استطاع إليه سبيلا، وهذا من رحمة الله بالعباد التخفيف على من لا يقدر بأي سبب من الأسباب التي ذكرها الفقهاء: ومنها المرض والفقر والخوف إذا كان الطريق إليه غير آمن، ومن كان قادراً على الإنابة في بعض الحالات: كالمرض والمرأة التي لم يتيسر لها محرم، وأعني بالمرض الذي لا يُرْجا برؤه، ويرى العلماء أن الذي يرجا برؤه ينتظر ثم يحج، حسب دلالة الآية 79 من سورة آل عمران، ومن لا يرجا وهو مقتدر ماليا ينيب عنه وكذا «المرأة التي يتعذر المحرم». فدين الإسلام دين الوسط بارزة منافعه، عديدة فضائله في كل جانب، لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وطاقتها. ولذا نرى رب العزة والجلال في القرآن الكريم، يُسمي الإسلام بصبغة الله في الإخلاص، والصبعة لون شامل وسمة مميزة، وطابع له خصوصية، في هذا القول الكريم: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} (البقرة 138). قال ابن الجوزي: صبغة الله أي الزَمُوا دينه، وأراد بها ملّة إبراهيم، وإنما سُمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان لظهور الصبغ على الثوب (تفسيره زاد المسيرا: 151). وللإسلام حساسية مرهفة، وحدود وزواجر بالنسبة إلى الديانات الأخرى - المنسوخة- لأنه يتأثر أكثر من أي دين فحدوده معروفة لا يمكن أن يتخطاها المسلم، ولا مفهوم للمعاصي والآثام والردة، في ديانة أخرى بقدر الوضوح في الإسلام. وبوضوح الفوائد والمقاصد فيه تتضح الفضائل في كل جزئية بالشريعة الإسلامية بما يعود على الفرد والأسرة والمجتمع بالفائدة والنفع، لأنها فضائل عامة تستقيم بها الأمور وتنتظم الأحوال بها في المجتمعات، فتعم الفرد والجماعة، وتنعكس على الأمة لأن كل فرد في المجتمع الإسلامي يَعْرِف ما لَهُ وما عليه، وتعمّ الفائدة ليبين هذا الأثر على الأمة يقول صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين) (من حديث جاء في الصحيحين). ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه، ولا شراً إلا حذرهم عنه، كما قاله بعض الصحابة، ومنها مسائل الحج التي بسطها في إجاباته لمن سأله: بأنه عليه الصلاة والسلام، يسر الأمور فما سئل عن شيء في يوم النحر، قُدّم أو أخر إلا قال: افْعل ولا حرج. ووقائع حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحداث التي مرّت في عصره، وتأدب بها أصحابه من بعده وتعاليمه عليه الصلاة والسلام، وأسوته الحسنة، وسنته القولية والفعلية والتقريرية، في مجال العقائد والعبادات، وإلى مجال الأخلاق والمعاملات، وإلى المشاعر في الحج والعمرة، التي سَعْتْ الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة، في البذل بسخاء في الإعمار والتوسعة والتهيئة بما يحقق الراحة، بقاصدي بيت الله الحرام، كابراً بعد كابر.. بما برز أمامهم ويُسر لكل فرد، قضاء نسكه: حجاً أو عمرة، براحة واطمئنان ليعودوا لديارهم، بعد قضاء تفثهم مرتاحين، وداعين، لمن منحهم الله خدمة الحرمين، على ما قاموا به من أعمال جليلة يسروا ذلك ليسهلوا العبادة مهما كثر الناس. فكل ما عملوه ويعملونه فهو لله، ثم لإراحة ضيوف الرحمن، وخدمات تُيسر وتقدم للتخفيف عنهم العناء والتعب، ومع حُسْن الخلق في التعامل مع الحجاج والعمار، في تسهيل أمورهم، من الفضائل في الحج، كما في الحديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أنْ تلقى أخاك بوجه طلق) لأن تبسمك في وجه أخيك صدقة، وتعاونه في تخفيف متاعبه، أو تدله على الطريق صدقة.. ومن المنافع التي تبذلها الدولة بسخاء، توسعة الحرمين وتيسير السبل وتوفير ما تحتاجه الملايين الوافدة. أعمال صغيرة وبسيطة كلها بفضائلها: الجزئية والكلية مجتمعة وثابتة في الصحيح من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، بقصد نفع المسلم وما يهمه في أمور دينه ودنياه، حيث أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. ولذا فإن من الفضائل التي تبرز أمام المسلمين أفراداً وجماعات في موسم الحج: بعد تصافي النفوس وتوفير الأمن: 1 - وجوب التأدب بالآداب القرآنية، أخذاً من دلالة الآية الكريمة: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (سورة البقرة 197). 2 - إن فريضة الحج،، حيث تجمع الناس من أنحاء الدنيا، في مكان واحد ووقت واحد، وبانضباط وهدوء في المسيرة متجهين بقلوبهم ومشاعرهم لمقصد واحد، وبالدعاء لرب واحد، يمثل مؤتمراً شاملاً بأهدافه ومقاصدهم، فتوحدت حركاتهم في صعيد واحد، وتلقفت أخبارهم خطوة بعد خطوة، ملايين المسلمين في أطراف الأرض مما يتحقق معه إحساس هؤلاء الملايين، وهم يراقبون وسائل الإعلام في تنقلاتهم من مشهد لآخر بهدوء وأدب، بأخوة الإسلام وبوفرة الخدمات المقدمة. 3 - إن الاهتمام في الحج بالمحافظة على أداء الصلوات في جماعة، ما هو إلا شعار للوحدة في صفوف خلف الإمام، مما يعطي انطباعاً عن شعائر المسلمين التي تجمع القلوب، وتتصافى معها النفوس لأن النص الشرعي، يبين أن المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخونه ولا يسلمه، حيث يأمر رسول: ضمن حديث بأن (نكون عباد الله إخواناً). 4 - إن من فضائل الحج: عدم التنازع واللغو، وعدم التدافع في المسير وعند أداء الشعائر: صلاة ورمي حجار، وسيراً من مشعر إلى مشعر، تأدباً بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه للأمة في قوله للحجاج: (عباد الله السكينة السكينة، ثم يومئ بيده الشريفة). 5 - إن ابتهالات الحجاج بالتكبير بأصوات جماعية أو منفردة في المشاعر وترديد: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، في ذلك فضائل الإنقياد، وحسن الاستجابة لله، وإخلاص العمل قولا مفعلا لله، الذي هو الرب المعبود، وهو أكبر من كل موجود، فله جاؤوا، ولأمره استجابوا، مخلصين له الدين، بنفقة طيبة، لأنه سبحانه لا يقبل إلا ما كان طيباً، وبقلوب خاشعة متذللة، بلباس يمثل الخشونة والتواضع، بعيد عن الزينة، ورؤوس حاسرة تشعر بالأدب لله أمام عظمته سبحانه، راجين عفوه ومغفرة الذنوب، وسائلين الله سبحانه: مثلما جمعهم في صعيد واحد بعد استجابتهم للحج، أن يؤلف بين قلوبهم ضد الأعداء. 6 - إن الحرص من كل فرد على التمسك بأركان الحج، وأداء واجباته، والبعد عن كل ما يخدش الحج، أو التساهل فيما يبطل، أو المساس بعض أعماله، يعتبر من الورع، وفيه فضل الإلتزام وبالسؤال يدرك الحاج المقاصد من وراء هذا الورع، الذي يجب أن يأخذه الحاج أدباً يتطبع، به وفائدة يتمسك بها: قدوة وعملاً متأصلاً في أعماله ويُعرف بها بين بني قومه، بعدما يعود من حجه، الذي يسمُهُ بِمِيْسِمَ الوقار. 7 - ولا يغني عن ذلك ما يعمله بعضهم، وخاصة في القرى، بعد العودة من الحج، بأن يبيض مقدمة داره، ويكتب على بابها الحاج فلان، ليكون رديفاً مقدماً على اسمه، بل يجب ترك ذلك لأن الله عالم بذلك بدون هذا الرمز، وإنما يحمد الله، لأن الله أشهد ملائكته في يوم عرفة على الحاضرين في ذلك المشهد، أن الله قد غفر لهم، وهذه نعمة كبيرة ويسأل الله أن يكون عمله مقبولا ليكون منهم بهذه البشارة. 8 - ولذا فإن من علامة القبول للحج، الحرص في التطبيق على الأعمال المؤداة، بأنها موافقة لأمر الله وسنة رسوله وأن نفقة الحج من مال حلال نقي من الشبهات، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. 9 - ومن فضائل الحج التي يكتسبها الحاج - ذكراً أو أنثى - أهمية الالتزام بعد الحج، بالأوامر الشرعية في نفسه ويحث من حوله أولاداً وأسرة، ليكون عملهم رمزاً متميزاً: صدقاً في الأداء وتعاملا بارزاً في البيئة، وبُعداً عن كل ما يخدش العقيدة، ومحبة وتسامحاً، ومحافظة على الشعائر وأولها الصلاة في أوقاتها. 10 - ومن الآية الكريمة: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} (التوبة 122)، فيجعل هاجس الإيمان، الذي كبر في جوانحه فضلا من الله، لما رأى من الروحانية، التي تربط المودة الحقيقية، برابطة العقيدة.. مع من عرفهم أول مرة، حيث ألّف الله بين هؤلاء الحجاج - الذين جاءوا من كل فج عميق، وشهدوا كثيراً من المنافع والفضائل، في مشاهد الحج، فشعر الحاج بمدلول الأخوة الإيمانية في هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحجرات الآية 10)، لعله يكون متأسياً وعاملاً بجهده في الإصلاح والرأي المزيل للشحناء في مجتمعه. - وفوائد الحج كثيرة، وفضائله عديدة، يدرك كل حاج وحاجة، فوائداً كسبوها، لينقل كل فرد ما يرى فيه مصلحة فردية أو جماعية، قدوة بالعمل الطيب، ليبثه في بيئته بعد عودته من الحج.