كان الوقت عند الساعة السابعة وخمس وعشرين دقيقة من صباح يوم السبت الرابع والعشرين من ذي القعدة, عندما قطعت إذاعة القرآن الكريم بث برامجها لتذيع بياناً من الديوان الملكي, ينعي فيه خادم الحرمين الشريفين أخاه وولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبد العزيز رحمه الله تعالى. وقع الخبر على مسامعي كالصاعقة فقد كان سموه رحمه الله تعالى, في مقام الوالد ليس لي فقط بل لكل أبناء هذه البلاد الطاهرة، توالت تداعيات هذا الخبر والمصاب الجلل عبر الإذاعات والاتصالات والرسائل الهاتفية, فقد كان مصاب الجميع وكان كل من قابلته في ذلك اليوم وما تلاه يبادر أخاه بالتعزية فكل يشعر بأنه مصابُه وأن له الحق في أخذ العزاء فيه. لم يكن ذلك مستغرباً فرجل مثل والدنا الأمير سلطان كان قد بذر لذلك اليوم منذ أكثر من نصف قرن، كانت إطلالته وابتسامته وبشاشته في وجه الكبير والصغير والقريب والبعيد هي الجواز الذي يدخل من خلاله إلى قلوب الآخرين دون استئذان وبعدها يتمكن من قلوب الناس بكرمه وبذله ووقفاته مع كل صاحب حاجة أو وجاهة أو شفاعة. الله أكبر .. هل حقيقةً سنفتقد كل هذه السجايا المختزلة في شخص واحد؟ لكنه قضاء الله وقدره ولا راد لقضائه.. إنه رجل ليس ككل الرجال إنه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز صاحب القلب الكبير والعطاء الجزيل في كل ما يخطر على بال أحد من الناس من أوجه البر والخير. تابعت في اليومين التاليين لإعلان وفاته رحمه الله جُل ما تناولته وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومواقع وقنوات, تابعتها بذهول ممزوج بالفخر فقد كان ركناً من أركان الدولة له في كل ناحية شاهد فله شواهد في العمل السياسي والإداري والعسكري ويزيد عليها شاهد آخر وهو بصماته في العمل الخيري والإنساني داخل المملكة وخارجها, وباختصار شديد كان رحمه الله «أمة خير في رجل». في هذا المقال - الذي رغبت أن أشارك فيه غيري في وداع والد الجميع صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز - لم أكن قادراً بسهولة على ضبط بوصلته ولا توجيهه إلى هدف أو ناحية معينة من أغوار هذه الشخصية الفذة.. هذه الشخصية الشاملة, لكن أجدني أحاول أن أشير إلى علاقته رحمه الله بالعلماء وذلك من خلال علاقته بوالدي فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله, كنموذج عايشته ووقفت عليه عن قرب، كان رحمه الله يُجل علماء الشريعة ويقدرهم ويقربهم ويستشيرهم, ويأخذ برأيهم وفتاواهم بل يُشعر كل من حوله بوجوب ذلك وأهميته، كانت بينه وبين الوالد رحمهما الله مكاتبات ومهاتفات ولقاءات متعددة في الرياضوجدة، وكان مما له وقع خاص في نفوسنا زياراته المتعددة للوالد في منزله بعنيزة عندما كان يزور منطقة القصيم كل عام كان يشرفنا بهذه الزيارة السنوية التي نجد منه خلالها كل محبة وتقدير للكبير والصغير، كانت وما زالت تلك الزيارات وما يتخللها من أحاديث ودية بينه وبين الوالد رحمهما الله تعالى تبقى راسخة في أذهاننا سنوات وسنوات . لقد كنا نشاهد الفرحة بادية علي محيا الوالد في ذلك اليوم حتى انه كان يجمع الصغار من الأبناء والأحفاد ويحفّظهم بعض الأناشيد للترحيب بالضيف الكبير الذي يبادر الجميع بإبتسامته المعهودة وبشاشته الفطرية . كما كان لسموه الكريم أياد بيضاء في أعمال خيرية جليلة أجراها الله سبحانه وتعالي علي يده عن طريق الوالد رحمهما الله جميعا, ومما يجدر ذكره في هذا الشأن تعاونه مع فضيلة الشيخ الوالد رحمهما الله في تسهيل قبول العديد من طلبة العلم المغتربين في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كل عام, مما كان له أكبر الأثر في نهلهم العلم الشرعي من منهله العذب لينطلقوا إلى بلادهم دعاة للدين والحق على بصيرة جعل الله ذلك صدقة جارية في ميزان حسناته إنه سميع مجيب. كما كان من عادة الفقيد رحمه الله أن يستضيف الوالد في مقر إقامته في مكةالمكرمة لتناول طعام الإفطار يوم الثالث والعشرين من رمضان كل عام. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم في جنات النعيم إنه ولي ذلك والقادر عليه. ولم يقتصر وفاؤه وتقديره للوالد في حياته فقط ففي زيارته لمنطقة القصيم في العام الذي تلى وفاة والدنا الشيخ محمد رحمه الله عام 1422 ه هاتفته في مقر إقامته, وكان - كما عهده الجميع - يرد على المتصلين مباشرة وطلبت منه زيارتنا في منزل الوالد جرياً على عادة سموه السنوية فرحب بذلك وقال سيتصل بك المكتب لتنسيق الموعد وتمت الزيارة ولك أخي الكريم أن تتصور كيف كان وقع هذه الزيارة في نفوس أسرة وطلاب ومحبي الشيخ لكنه سلطان بن عبد العزيز والذهب من منجمه لا يستغرب، وأذكر أنه في تلك الزيارة كان يواسينا ويعزينا في الوالد فضيلة الشيخ محمد رحمه الله ويعدد محاسنه ويروي بعض مواقفه معه، وكان في ذلك الوقت قد صدرت الموافقة على إنشاء مؤسسة الشيخ الخيرية فطلب رحمه الله إيجازاً عن أهدافها ونشاطاتها وأكد بعد ذلك على ضرورة الاهتمام بتوثيق ونشر تراث الشيخ العلمي على وجه الخصوص كما تفضل بالتوجيه بتقديم دعم سنوي للمؤسسة كان طوال الأعوام الماضية رافداً مهماً من روافد المؤسسة في تحقيق أهدافها وأجزم بأن له رحمه الله في كل ما تحقق - من أعمال بر وخير - سهم ونصيب وسيظل صدقة جارية له إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى. ختاماً نرفع أحر التعازي وأصدق المواساة إلى مقام خادم الحرمين الشريفين وإلى مقام ولي العهد وأصحاب السمو الملكي إخوان وأبناء الفقيد, وإلى كافة الأسرة المالكة والشعب السعودي والعالم الإسلامي في وفاة والد الجميع الأمير سلطان بن عبد العزيز ونسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته ورضوانه وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأن يجعل ما أصابه رفعة في درجاته وأن يجمعنا به ووالدينا ومن نحب في جنات النعيم إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (*) رئيس مؤسسة الشيخ ابن عثيمين الخيرية