ان أمر الرؤى والأحلام من الأمور التي اعتنت بها الأمم على مر العصور وكر الدهور، وذلك لما تعكسه هذه الرؤى على نفوس الناس من تأثيرات تتنوع ما بين أفراح وأتراح، حسب ما يرون في مناماتهم مما يقدره الله سبحانه وتعالى، وهذه الرؤى والأحلام من الأمور الجبلية التي يتعرض لها جنس الانسان، وهي اعتقادات أو ادراكات يعلقها الله في قلب العبد على يدي ملك او شيطان، ولقد زادت عناية الأنبياء عليهم السلام بها، وهكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان غالبا ما يقول عندما يصبح ويجلس بين أصحابه: «هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» فعناية النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عنها دليل على شدة الاهتمام بأمر الرؤيا، الا انه في الآونة الأخيرة زاد اعتناء الناس بأمر الرؤى والأحلام زيادة ملحوظة، لكثرة ما يرونه في مناماتهم، حتى أصبح الشيطان يلعب بعقول كثير من الناس ونفوسهم، وأخرجهم هذا الاهتمام الزائد الى كثير من الأمور غير المشروعة والتخبط الكبير والبعد عن المنهج النبوي في التعامل مع ما يرونه في مناماتهم، ولا سيما جنس العامة الذين هم أسرع الناس الى التأثير والتصديق من غيرهم، وهذا الاهتمام الزائد بالرؤى والأحلام أفرز لنا في المقابل عددا ليس بالقليل ممن يتصدى لتعبير الرؤى، وهم ما بين متمكن موفق يحمل صفات المعبر الشرعي وهم قلة قليلة، وما بين هاوٍ متطفل على مائدة المعبرين من أهل العلم والبصيرة يتلذذ لكل جديد، ويطير مع كل غريب، ويحاول ان يقتحم هذا الامر العظيم والخطب الجسيم، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ويقذفون بالغيب من مكان بعيد، حتى انك لتسمع الآن في البلد الواحد عشرات الأشخاص الذين يزاولون تعبير الرؤى، والكثير منهم يهرفون بما لا يعرفون، فتجد بعض هؤلاء الهواة إن صح التعبير يعبرون رؤى من يسألهم، من خلال خلفيات معينة يحملونها، إما ثقافية، أو فكرية، أو منهجية، أو سياسية، أو عاطفية، فيطوعون الرؤيا لهذا المشرب أو ذاك، نسأل الله السلامة والعافية، وفي هذا الوقت الذي يعيش فيه العالم اضطرابا بشتى الأحداث، بدأ الكثير من هؤلاء يتجاوزون في تعبيرهم للرؤى والأحلام حدودا لا يجوز لأهل العلم السكوت عليها، خاصة في جزمهم بوقوع أشياء، ، وخروج أشخاص، ، وتغير سنن كونية، ، وأشياء كثيرة، نسمعها ونقرأها من هنا وهناك، لا يسعفهم الواقع أثرا ولا نظرا، وقد ذكرتني هذه الظاهرة، بظاهرة احتراف الرقية الشرعية التي انتشرت في العقد السابق انتشارا كبيرا، وتطلع اليها الكثير، حتى ان كثيرا ممن كان مريضا وشفي على يد أحد القراء، بدأ يحترف القراءة، وضرب الناس على بابه بعطن، ولا يفهم من كلامي انكار الرقية الشرعية، كلا! ولكن المنكر، احترافها والجلوس لها، فهذا لم يكن عليه السلف الصالح، وبانحسار مد ظاهرة احتراف الرقية، بدأت تلوح بالأفق هذه الظاهرة وهي تعبير الرؤى والأحلام مما ينبىء بانتشارها على نطاق واسع ان لم يكن لأهل العلم تدارك فيها قبل ان تصبح حرفة في الأيام القادمة ولا استبعد ان يشترط البعض على تعبيرهم للرؤية مبلغا محددا، يصنف على حسب قوة الرؤية من ضعفها!! كما حصل لكثير من الذين يرقون، فيصبحون يتآكلون بها في كتب تباع أو روايات تحكى يخوفون بها الناس لتحقيق مطامع ومصالح، مثل تلك الرؤى التي يروج لها أرباب الطرق الصوفية يزعمون فيها ان من روجها بين الناس وفعل ما فيها حصل له من الفضل كذا وكذا وان من أعرض عنها ولم يفعل ما فيها أصابه من الضر ما الله به عليم، زعموا، أو تحدث فتنة بين الناس خاصة ما نسمعه ونقرأه من الجزم بخروج المهدي مثلا، أو تغير سنن كونية في العالم، وقد رأيت ان الحاجة الى الحديث عن مثل هذه الظاهرة في مرتبة الضرورة في هذا الوقت بالخصوص أكثر من غيره للأسباب التي ذكرتها آنفا، وخوفاً على الناس من ان يلعب بهم الشيطان، وتذكيرا للمتطفلين ممن يحاولون اقتحام هذا الأمر، فتعبير الرؤيا من ضروب الفتوى، وهو من العلوم الشرعية، له اصوله وقواعده، فلا ينبغي ان يتصدى لها الا عالم او فقيه بها، ومن قال فيه كذبا ففي الشر وقع يقول تعالى: «ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون»، وقد سئل إمام دار الهجرة مالك بن انس أيعبر الرؤيا كل احد؟ فقال: أبا لنبوة يلعب؟! وقال رحمه الله: لا يعبر الرؤيا الا من يحسنها، فان رأى خيرا أخبر به، وان رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت، أولى لك أولى أيها المجازف، ، ثم أولى لك فأولى، وينبغي لمن يحسن التعبير أيضا اذا أخبر برؤيا ان يعبرها على خير وان يحذر أشد الحذر من تخويف الناس بها، قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج يختلف يعني في التجارة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان زوجي غائب وتركني حاملا فرأيت في المنام ان سارية بيتي انكسرت واني ولدت غلاما أعور فقال خير يرجع زوجك ان شاء الله صالحا وتلدين غلاما برا فذكرت ذلك ثلاثا فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غائب فسألتها عائشة فأخبرتها بالمنام فقالت لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا فقعدت تبكي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مه يا عائشة اذا عبرتم الرؤيا فاعبروها على خير فان الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها» فأين هذا المنهج من فعل كثير ممن بثوا الرعب في قلوب الناس، وجلبوا لهم القلق الدائم، والحسرة التي لا تنقطع من خلال تعبيراتهم المجانبة للصواب، والمقرر عند أهل العلم ان الرؤى والأحلام لا يترتب عليها أحكاما في الواقع، الا ما يراه الأنبياء والرسل، فهناك فرق بين رؤيا الأنبياء ومن سواهم من الناس، فرؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي فانهم معصومون من الشيطان، ولهذا لما رأى ابراهيم الخليل في المنام انه يذبح اسماعيل أقدم على ذبحه، وأما رؤيا غيرهم من البشر فتعرض على الوحي الصريح، فان وافقته والا لم يعمل بها ولم يلتفت اليها، وان هذه المنامات التي يراها الناس انما هي مبشرات لا يعقد عليها حكم شرعي يقول هشام بن حسان: كان ابن سيرين يسأل عن مئة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء الا ان يقول اتق الله وأحسن في اليقظة فانه لا يضرك ما رأيت في النوم وكان يجيب في خلال ذلك ويقول انما اجيبه بالظن والظن يخطىء ويصيب، والمقرر عندهم انه ليس كل ما يراه المرء في منامه يكون حقا، فلقد اختلط على كثير من الناس أمر الرؤيا، لما بعدوا عن هدي الشرع الحنيف، ووقعوا في المعاصي، لعبت بهم الشياطين حتى ظن الكثير منهم ان كل ما يرى في المنام حق لابد من وقوعه، ولذلك تجد الواحد منهم يرى أكثر من رؤيا في المنام الواحد فيها ما يفزعه كلها من تلعب الشيطان به، فعن جابر رضي الله عنه جاء اعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك، والواجب على هؤلاء ملازمة الأذكار الشرعية قبل النوم، كقراءة آية الكرسي والمعوذات وخواتيم سورة البقرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وقال صلى الله عليه وسلم: «اذا قلت قل هو الله أحد قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثلاث مرات حين تصبح وحين تمسي تكفيك من كل شيء»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء»، وينبغي على الناس جميعا ان يتعلموا المنهج الشرعي في التعامل مع ما يرون سواء كان مما يسرهم أو ما يسوءهم، فمن رأى رؤيا مكروهة عليه فعل ستة أشياء: (أ) ان يتعوذ بالله من شرها، (ب) ان يتعوذ بالله من شر الشيطان، (ت) أن يتفل عن يساره ثلاثاً حين يهب من نومه تحقيراً للشيطان، (ث) ان يتحول عن جنبه الى الآخر، (ج) ان يصلي، (ح) ألا يذكرها لأحد، فاذا فعل هذه الأشياء فانها لا تضره، ويذهب الله من قلبه ما يجد من أثرها وان كانت صالحة ينبغي له فعل أربعة أشياء: (أ) ان يحمد الله عليها، (ب) ان يستبشر بها، (ج) ان يحدث بها من يحب دون من يكره، (د) ان يسأل عنها عالما أو ناصحا، والواجب على أهل العلم طرق هذا الموضوع في جميع الوسائل، ومن خلال كل المنابر الاعلامية، وبيان المنهج الشرعي السليم في التعامل مع الرؤى والأحلام، وارشاد الناس الى ما ينفعهم، وسد الطريق أمام المتهوكين ممن يظنون ان التعبير أمره يسير وانه ينال بالاكتساب والتأهيل، وانه مرعى مستباح لكل أحد لا ينبغي حكره على فئة معينة، حتى أدى بنا الحال الى ما بدأنا نلمسه من التداعيات والمجازفات والجرأة العجيبة وغياب المنهج الصحيح لهذا الفقه الذي لا توجد به مساحة للاجتهاد والتدرب، وانما هو هبة يمنحها الله من شاء من عباده، يعرفون بصدقهم واخلاصهم وعلمهم بالكتاب والسنة وشدة تمسكهم وأخذهم بهذين الأصليين العظيمين، وأيضا ما يلمسه الناس من صدقهم من خلال اصابتهم في التعبير، والحمد لله أولا وآخرا،