أعلن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان، رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار عضو اللجنة الإشرافية العليا لسوق عكاظ، موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز - حفظه الله - على تشكيل لجنة رباعية عليا تمثل (إمارة منطقة مكة، وزارة الشؤون البلدية والقروية، الهيئة العامة للسياحة والآثار، ووزارة المالية)؛ لتقديم مشروع تطويري شامل، يعيد لمحافظة الطائف مكانتها السياحية والاقتصادية، والرفع عما يتم التوصل له. مبيناً أن المشاريع التي ستدرسها اللجنة ستشمل تطوير المحور السياحي، وتطوير مشروع مدينة سوق عكاظ التاريخي، وتطوير وسط مدينة الطائف التاريخي، وتأهيل المواقع الأثرية في محافظة الطائف، وتطوير متحف الطائف، وإعادة تأهيل وتطوير المشاريع الخدمية في خطة عشرية. ونوه الأمير سلطان بن سلمان في كلمته البارحة في انطلاق أنشطة (سوق عكاظ) بجهود الدولة في الحفاظ على التراث وتنميته. مؤكداً أن إحياء المواقع التاريخية، وبما لا يمس بالعقيدة والدين، جزء من تمثل هذا البُعد الحضاري للمملكة الذي يجب أن نعيشه ونتمثله في وقتنا الحاضر والمستقبل، ومسألة أن يكون تاريخنا مُعاشاً بيننا مسألة مهمة، نحاول في الهيئة العامة للسياحة الآثار ومؤسسات الدولة والأخرى والمواطنين أن نعمل من أجل تحقيقها. وفيما يأتي نص كلمة سموه: يشرفني أن أقفَ أمامَكم اليومَ في هذه الأمسيّةِ الجميلةِ من أمسيّاتِ الطائفِ التي أحملُ لها في ذاكرتي أجملَ الذكرياتِ، ذكرياتٍ تزدادُ عمقاً وثراءً عندما ألتقي بأهلَها الكرماءَ أتحدثُ أليكم من منبرِ عكاظٍ وأنا على يقينٍ من أني لستُ أكثرَ الحضورِ ثقافةً أو أبلغَهم لساناً. إنها فرصةٌ سانحةٌ أنْ نجتمعَ اليومَ في المملكة العربية السعودية بلدِ الحضاراتِ، في هذا المحفلِ الثقافيِّ الرفيعِ الذي يشكلُ لَبِنَةً من لبناتِ البُعدِ الحضاريِّ للمملكةِ، فنحنُ وطن الثقافةِ والحضارة ومهد الرسالة الإسلامية السامية، وموطن الحرمين الشريفين، وهي التي يعتز أهلها بدينهم الإسلامي وعقيدتهم الصافية. وإذ نعتز قيادة وشعباً بشرف خدمة الإسلام والمسلمين لَنشير أيضاً إلى أن الإسلام العظيم قد انطلق من أرض الجزيرة العربية، في مجتمع ذي ثقافات متباينة، كانت طبيعتُه في ذلك الوقتِ المرونةَ والترحالَ، حيثُ كان الحجُّ إلى مكةَالمكرمةِ واجتماعُ الناسِ في سوقِ عكاظٍ وغيرِها من أسواقِ العربِ يشكلانِ شبكةً لتوسيعِ الاتصالاتِ في الجزيرةِ العربيةِ، مما سهلَ الانتشارَ السريعَ للإسلام، وهو ما يشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ تأثيرَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ الحديثةِ في هذهِ الأيام. كما نؤكد أن الدورَ الذي تضطلعُ به المملكةُ العربيةُ السعوديةُ الآنَ، وستلعبُه في المستقبلِ، لم يُستنبَطْ أو يُبتدَعْ من فراغٍ، بل هو دورٌ أصيلٌ ناتجٌ من مكانتِنا الطبيعيةِ كوريثةٍ لسلسلةِ حضاراتٍ عظيمةٍ توَّجها الإسلام، فالمملكةُ دولةً وحضارةً ليست طارئةً على التاريخِ، والمكانةُ التي تتبوؤها اليوم وما تقوم به قيادتها الراسخة سياسياً واقتصادياً هي امتدادٌ لإرثٍ حضاريٍّ عريقٍ يؤهلُها لأنْ تصبحَ صانعةً للتاريخِ بإذنِ اللهِ تعالى. الجميع يعلم الأبعاد الثلاثة التي تتميز بها المملكة العربية السعودية وتشكِّل شخصيتها أمام العالم، فالبُعد الديني والبُعد السياسي والبُعد الاقتصادي المؤثرة في المستوى العالمي واضحة للعيان، إلا أن هناك بُعداً آخر يَغفُل عنه المواطنون، هو البُعد الحضاري، الذي اخترتُ أن أتحدث عنه اليوم. هذا البُعد الذي يحظى بدعمِ قائدِ البلادِ خادمِ الحرمينِ الشريفين -حفظَه اللهُ - وولي العهد الأمين، الذي تبنّى قبلَ أكثرَ من ربعِ قرنٍ مهرجانَ الجنادريةِ الذي عزّز من «اجتماعِ» التراثِ الوطنيِّ في مكانٍ واحدٍ، وهو الذي دعمَ ورعى معرضَ آثارِ المملكةِ الذي بهرَ العالمَ واطّلع عليه حتى الآن أكثرُ من (800) ألف زائر في محطاته الثلاث (فرنسا، وإسبانيا، وروسيا)، وما زالَ يطوفُ بينَ أرجاء العالم، كما أنه - حفظَه اللهُ - وقفَ بقوةٍ مع البرنامجِ الوطنيِّ للآثارِ المستعادةِ، وقال عندما تشرفنا بلقائه في شهرِ رمضانَ الماضي لاطلاعه على آخر المكتشفات الأثرية الذي يعود تاريخها إلى ما قبل 9000 عام «انشروا هذا الكشف في العالم، خلهم يشوفون مصدر الخيل العربية.. خلهم يتعرفون على بلد الحضارات». وكان - حفظَه اللهُ - يعلّقُ على الاكتشافِ الأثريِّ الجديدِ الذي يؤكدُ وجودَ حضارةٍ مزدهرةٍ في الجزيرةِ العربيةِ تعودُ إلى 9000 سنةٍ تؤكد أنّ هذه البلادَ هي مهدُ الخيلِ العربيةِ الأصيلةِ. ونحنُ نستمدُّ من هذا الدعمِ قوتَنا ويدفعُنا بحماسةٍ منقطعةِ النظيرِ للتأكيدِ على اكتشافِ بُعدِنا الحضاريِّ. وأودُّ هنا أن أتحدثَ عن قضايا أساسيةٍ تشكِّل البُعدَ الحضاريَّ للمملكة: فأولاً: أن حضارةَ المملكةِ غنيةٌ ومتأصلةٌ في تاريخِها، كما أنّ إرثَها الثقافيَّ الملموسَ - وهو محورُ حديثِنا اليوم - محفوظٌ في آثارِها وتراثِها العمرانيِّ والشعبيِّ، وهو الرابطُ بينَ ماضي المملكةِ وحاضرِها، والأهمُ من ذلكَ مستقبلُها. إلا أنّ العنايةَ بالبُعدِ الحضاريِّ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ بمكوناتِه المختلفةِ، غيرُ معروفٍ بصورةٍ كبيرةٍ خارجَ دائرةٍ ضيقةٍ من المختصينَ، ويُعدُّ الوقتُ الحاضرُ هو الوقتُ المناسبُ لتحديدِ هذا البُعدِ وتقديمِه للعالمِ، حيث تضطلعُ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ حالياً بدورٍ متزايدِ الأهميةِ بين الأمم في الشؤونِ الدينيةِ والاقتصاديةِ والسياسيةِ، وعلى المستوى الدولي في حراكها المستمر، فمن الضروريِّ كذلك أنْ نُقرَّ كأمةٍ بمسؤولياتِنا بصفتِنا أمناءَ على دينٍ عظيمٍ، وحضارةٍ عميقةٍ أنتجا تراثاً مادياً ثرياً. ثانياً: أن الإسلام أوجد نظاماً للقيم يميزنا عن غيرنا؛ حيث اعترف بالحضارات العظيمة في شبه الجزيرة العربية، وعزز القيم العربية النبيلة القائمة؛ لذلك فإننا ننظر بحرص وعناية إلى تراثنا الحضاري على أنه مصدرُ هذه القيم ومنبعها، وجزء لا يتجزأ من تاريخ وحدتنا الوطنية المباركة، وهذا الجزء من تراثنا الحضاري لا يزال مغيّباً بشكل كبير عن ذهن المواطن وثقافته، وحياته اليومية. مؤكدين أن التراث الثقافي والبُعد الحضاري للمملكة لا بد أن يتحوّلا ويخرجا من بطون الكتب، إلى أن يكونا واقعاً وحضارةً يعيشها المواطن في الواقع، عبر الأمكنة التي تشكل ذاكرة هذه البلاد التي يتلاقى فيها مع أبناء وطنه، وهو يتجوّل في هذه البلاد الجميلة، ويستمتع بالمقومات الحضارية لبلاده، مع أسرته، وأصدقائه وزملائه. هذه المواقع يجب أن تكون مقصداً للشباب، حتى يستذكروا هذه الوحدة الوطنية المباركة التي قامت في هذه الأرجاء المترامية التي جمعها الله سبحانه وتعالى بكلمة التوحيد ثم بأهلها المخلصين المحبين لبلادهم تحت راية الموحد، وأن تتحوّل هذه المواقع إلى أماكن يجد فيها المواطن غايته في الاطمئنان في بلده، سائحاً أو زائراً، والالتقاء بالمواطنين الآخرين والتعرّف على بلاده. فمن تجربتي وقربي من قطاع السياحة الوطنية اكتشفت أن المواطن لا يعرف هذه البلاد الغنية بمواردها كما يجب. ثالثاً: أننا متفائلون جداً ونحن نرى كيف بدأ كثير من المواقع في بلادنا الغالية يتحول من مواقع أثرية وقرى تراثية وأوساط مدن خالية من الحياة إلى مواقع تضج بالحياة ويعيش فيها الناس ويؤمها المواطنون وأسرهم مثل موقع سوق عكاظ الأثري. فنحن نريدها أن تتحوّل إلى مورد اقتصادي كما هو الحال في أنحاء العالم اليوم، نريد أن يجد فيها المواطن الفرص للاستثمار، وأن تكون مورداً غزيراً لفرص العمل للمواطنين رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، وأن يجد المواطن فيها المتعة وهو يستثمر ويقدِّم خدمة لأخيه المواطن، كما يجد فيها المتعة وهو يحتفي بتراث بلاده. هذه المواقع مناجم من الفرص الكامنة وآبار نفط غير ناضبة يجب أن نهيئها للمواطنين كي يغتنموها ويستثمروها. إن أهمية إحياء المواقع التاريخية، وبما لا يمس العقيدة والدين، جزء من تمثل هذا البُعد الحضاري الذي يجب أن نعيشه ونتمثله في وقتنا الحاضر والمستقبل، ومسألة أن يكون تاريخنا مُعاشاً بيننا مسألة مهمة نحاول في الهيئة العامة للسياحة والآثار ومؤسسات الدولة الأخرى، وكذلك المواطنون، أن نعمل من أجل تحقيقها. ولعلي في هذا الصدد، ونحن في الطائف الجميلة، أشير إلى أحد الأمثلة للتعاون البنَّاء لاستعادة البُعد الحضاري لبلادنا من خلال العمل المشترك بين الهيئة العامة للسياحة والآثار وأمانة الطائف، وبرعاية كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل في استعادة تراث الطائف من خلال مشروع تطوير وسط الطائف الذي يجري العمل الآن فيه، وأذكر بالخير هنا أهل الطائف أنفسهم، من الملاّك لوسط الطائف الذين يتعاونون بشكل كبير، فلولا هذا التعاون والتفهم لأهمية استعادة ذاكرة مدينتهم وتألقها لما كان لهذا المشروع أن ينهض. رابعاً: أنه ونحن نعيش في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة من المهم أن نؤكد أننا نعيش اليوم في عالم متغير وعالم تيسر فيه التواصل بشكل كبير عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وانفتحت فيه أبواب السياحة في كل أنحاء العالم لكل الأُسَر، وقلما يوجد مواطن اليوم لم يذهب في رحلة سياحية ويحتك بالثقافات والحضارات الأخرى. لقد أصبحت الثقافات الأخرى تتنافس مع بعضها حتى تصل إلى ذهن الإنسان، واختلطت الثقافة بالسياسة. فالدول اليوم أصبحت تُعزز استثمارها في البُعد الحضاري والثقافي كجزء من بناء الوحدة الوطنية والصورة التي تُعزّز مكانتها السياسية بين الأمم، والمملكة اليوم تزخر بتراث عميق وتعتزّ بمكوناتها الثقافية والحضارية أكثر من أي وقت مضى. إن المملكة اليوم تقف ورأسها عالية بين الأمم في المحافل الاقتصادية، وفي القضايا السياسية الشائكة، وهذا هو قدر إنسان الجزيرة العربية، وقدرنا نحن أبناء المملكة العربية السعودية، أن نعيش في هذا الموقع الجغرافي المهم والحساس الذي مرت عليه الحضارات منذ القدم. هذه الدولة الفتية، ولله الحمد، بقيادتها الواعية قد تعاملت مع هذه التحديات بعزيمة وحكمة وبكل اقتدار مع ما مرّت به من تحديات وما تمر به اليوم من تحولات هائلة. لذلك فإن تعزيز مكانتنا الحضارية بين الأمم واستثمارنا اليوم في العناية بتراثنا الحضاري الكبير قضية أساسية. فنعم نحن مهد الرسالة وموطن الحرمين الشريفين أولاً، ونعم نحن بلد الاقتصاد الكبير والإنجازات التنموية الكبرى وبلد النفط، الذي استثمرناه في خير بلادنا وخير الإنسانية، نعم نحن الملجأ الأخير لكل مستجير يُريد الأمن والخير، نعم نحن دولة السياسة والإصلاح والحضور الدولي المحترم بين الأمم، نحن أيضاً بلد الحضارات وبلد التاريخ وبلد العلم وبلد الثقافة، ولذلك تقوم الدولة اليوم بقيادة هذا التحوّل في تعزيز البُعد الحضاري الذي يتواكب ويتزامن مع اهتمام المواطن، فالمواطن أيضاً عليه مسؤولية أن يعتز بهذا البعد الحضاري لبلاده، وأن يكون هو الحارس الأول والحامي الأول لآثاره وتراثه العمراني والثقافي، فهذا التراث في نهاية الأمر ملك للمواطن، ونجاح هذا المشروع الوطني الكبير سوف يكون في نهاية الأمر نجاحاً للمواطن ولأبنائه وأحفاده من بعده، فالمواطن هو المستفيد الأول والأخير من ذلك. إن أكبر مكسب لهذا البُعد الحضاري هو البُعد الإنساني، فشخصية الإنسان في بلادنا تشكَّلت عبر التاريخ من تراكمات حضارية متعددة، وأتى الإسلام ليهذبها ويصقلها. إن الهدف الأساسي من أي تنمية هو الإنسان، والإنسان هو صانع الحضارة؛ لذلك «فعكاظ» يمثل إحدى نتائج هذا الاهتمام بالبُعد الحضاري. إننا نُحيّي عكاظاً، ونُحيّي أمير الثقافة الأمير خالد الفيصل، الذي يُتابع تطوير هذا الملتقى السنوي متابعة مستمرة، حتى يصل إلى المستوى الذي يستحق. وبمشيئة الله سوف ترون سموكم في المستقبل القريب مدينة عكاظ وقد تحققت على أرض الواقع؛ لتكون لبنة إضافية من لبنات البُعد الحضاري لوطننا الغالي.. وختاماً يا سمو الأمير والحضور الكرام: وددت لو كنت شاعراً لأقول قصيدة في الوطن، ولكني قد استعنت بزميل لي من منسوبي الهيئة العامة للسياحة والآثار، هو الشاعر سعود بن سليمان اليوسف، الذي اكتشفت أنه شاعر مبدع خلال الشهر الماضي، وقد طلبت منه قبل يومين أن يكتب أبياتاً قصيرة سوف ألقيها ختاماً لكلمتي، وتزامناً مع سوق عكاظ، اخترت منها هذه الأبياتَ حتى أختم كلمتي بما يليق بهذا الحضور الثقافي الكبير.. يقول الشاعر: قِفْ هاهنا وَقِفِ الزمانَ لتجمعَه واسألْ عكاظَ عن السنينِ المُمْرِعه واسألْه عن لحنِ الحضارةِ كلما أصغى له سمعُ الدُّنى: مَن وقّعه؟ واجعلْ على البُعدِ الحضاريِّ الذي يزهو به وطني النوافذَ مُشْرَعه وطنُ الحضارةِ مهبطُ الإسلام قد حضنَ الهُدى وحَنَى عليهِ أَضْلُعَه ما قامَ بينَ الناسِ مجدُ حضارةٍ فكريةٍ إلا وكنّا مَرْجِعَه لمّا تأرجحَ مستوى الدنيا أتى عبدُالعزيزِ بعقلِه كي يَرفَعَه وطنٌ حضارتُه هي التاريخُ، مُذْ أنْ قامَ عِزاً قامت الدنيا مَعَه وطنٌ إذا ما سارَ.. كلُّ حضارةٍ نهضت تَحُثُ مسيرَها كي تَتْبَعَه سمو الأمير سلطان بن سلمان