إنَّ الخلاف الواقع في الأمة خلافٌ عمل على تفريقها وتمزيق وحدتها، وبما أنَّ الحق واحدٌ لا يتعدد، وأنَّ الله سبحانه وتعالى أوضح الطريق، ورسوله- صلى الله عليه وسلم- تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وكان من هديه- صلى الله عليه وسلم- أمره لنا: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإنْ غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). ولم يقل فسلوا أهل الحساب الفلكي، وفي هذا أمرٌ لأمته بأنْ يُثبتوا دخول الشهر بمجرد ثبوت رؤية الهلال، وإنَّ الناظر في حال أهل الحساب الفلكي يجد الخلاف واقعا بينهم، ويجد التناقض والأغلاط الواضحة، ففي هذا العام اختلفوا في إمكانيَّة رؤية هلال شوال ليلة الثلاثين، فمنهم من يُحيل (يستحيل) رؤيته، وهم حذاق جمعية الفلك بجدة ومن تابعهم، ومنهم من يقول بإمكانيَّة رؤيته، وهم جمعٌ من حُذاق الفلكيين داخل البلاد وخارجها الذين يرون موافقة الحساب للرؤية الشرعيَّة، والعجب كل العجب أنَّ بعض الفلكيين يزعمون أنَّ حساباتهم قطعيَّة الثبوت وسار على ذلك بعض كتَّاب الصحف!!! ولو أجمع أهل الحساب الفلكي في جميع أقطار الأرض فلا يعتبر إجماعاً لعدم عصمة إجماعهم، وليس في إجماعهم طريق شرعيّ لإثبات دخول الشهر وخروجه، فنحن متعبدون بإثبات دخول الشهر وخروجه برؤية الشهود العدول للهلال، لا بقول أهل الحساب الظني الفلكي، وقد رؤي هلال شوال لهذا العام في عدة محافظات في المملكة وفي مصر وفي ماليزيا، وأثبتوا هلال العيد بالرؤية الشرعيَّة فرؤيته ثابتةٌ في بلادنا وفي الشرق والغرب، ولا يجوز بتاتاً الطعن في عدالة شهودٍ عدولٍ أخذت الأمة شهادتهم بالقبول؛ لحسابات الفلكيين الظنيَّة الذين ليس لهم قدمٌ شرعيَّة يتكئون عليها، كما ليس لهم الحق في إصدار ما يُزعزع ويُخلخل وحدة الصف والجماعة؛ إضافةً إلى أنَّ منشأَ الخلاف منهم، كما لا يكاد يسلم عامٌ من الأعوام من اختلافهم وتضارب كلامهم، فثبت لنا في الواقع الحاضر ورود الخطأ في حسابات أولئك الفلكيين، وأقول لهم: رفقاً رفقاً، وعلى رسلكم من الحكم جزافاً في طعنكم للمترائين الهلال من المسلمين العدول، واحذروا من إحداث البلبلة والتشويش على العامة، فالأمَّة الإسلاميَّة ليست في حاجةٍ إلى ما يزيد اختلافها الذي يعمل على تفريقها ويحول دون اجتماعها، مع علمنا أنَّه لن يكون اجتماع الأمَّة إلا فيما وافق الشرع وتوجيهاته، ومن الشبه التي يتشبثون بها أنَّ علم الحساب الفلكله من الدقة ما يندر معه الخطأ، وهذا قولٌ مردودٌ يُكذِّبه الواقع، وإنَّ هذا العلم مهما بلغ ومهما استخدمت فيه من الأجهزة الحديثة ذات التقنية والوسائل والطرق الدقيقة في حساب الفلك يعتريه من الخطأ والنقصان والواقع شاهد بذلك. وإنَّ من يسر الدين وسماحته أنْ جعل إثبات دخول الشهر بمجرد رؤية الهلال بشهادة العدل من المسلمين، سواء كانوا يعلمون الحساب الفلكي أو لا يعلمونه، ويكفي أنْ يكون الرائي مسلماً عدلاً، ولا يجوز أنْ نُلزمه بمعرفة الحساب الفلكي، والمتقرر في الشريعة وجوب العمل بالرؤية الشرعية الثابتة لعدة أمور منها: أولاً: أنَّه يلزم على اعتماد الحساب الفلكي في ثبوت دخول الشهر وخروجه ما يلي: أ/ نسخ أحد خطابي الشريعة (السنَّة). ب/ أنَّ العبادات لما كانت توقيفية عن الشريعة فقط، فإنَّ اعتماد الحساب الفلكي تشريعٌ بلا خطاب شرعي وهذا محض البدعة. ج/ أنَّ من يدعو إلى اعتماد الرؤية فهو يدعو إلى الدليل، ومن يدعو إلى الحساب الفلكي فهو يدعو إلى التقليد. ثانياً: أنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- حصر دخول الشهر وخروجه بالرؤية الشرعيَّة للهلال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإنْ غبي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين). وفي لفظ (فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له ثلاثين يوماً). قال نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما: (فكان ابن عمر يُفطر مع الناس ولا يأخذ بالحساب). وقال شيخ الإسلام: (الطريق إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها، بالسمع والعقل). ثالثاً: أنًّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- نهى أمته عن اعتماد الحساب الفلكي في دخول الشهر وخروجه بقوله: (إنَّا أمَّةٌ أميَّةٌ لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) قال شيخ الإسلام: (هو خبرٌ تضمَّن نهياً، فإنَّه أخبر أنَّ الأمَّة التي اتبعته هي الأمَّة الوسط، أميَّةٌ لا تكتب ولا تحسب، فمن كتب أو حسب لم يكن في هذه الأمَّة في الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمَّة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنهم محرم منهيٌّ عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران محرمين منهياً عنهما) وقال أيضاً: (وظهر بذلك أنَّ الأميَّة المذكورة هنا صفة مدحٍ وكمالٍ من وجوه: من جهة الاستغناء عن الكتَّاب والحسَّاب بما هو أبين منه وأظهر، وهو الهلال، ومن جهة أنَّ الكتاب والحساب هنا يدخلها غلط، ومن جهة أنَّ فيهما تعباً كثيراً بلا فائدة، فإنَّ ذلك شغلٌ عن المصالح، إذ هذا مقصودٌ لغيره لا لنفسه، وإذا كان نفى الكتاب والحساب عنهم للاستغناء عنه بخيرٍ منه، وللمفسدة التي فيه، كان الكتاب والحساب في ذلك نقصاً وعيباً، بل سيئةً وذنباً، فمن دخل فيه فقد خرج عن الأمة الأميَّة مما هو من الكمال والفضل السالم من المفسدة، ودخل في أمرٍ ناقصٍ يؤديه إلى الفساد والاضطراب) وقال- رحمه الله-: (إنَّ الأخذ بالحساب قد صرَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفيه عن أمتِّه والنهي عنه) وقال: (وما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في الإسلام ما ليس منه، فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يُقابَل به أهل البدع). رابعاً: أنَّ في العمل بالحساب الفلكي انصراف المسلمين عن ترائي الهلال الذي هو فرض كفاية. خامساً: أنَّ في العمل بالحساب الفلكي بلبلة لأفكار العوام وبعض المنتسبين إلى العلم. قال شيخنا ابن باز - رحمه الله-: (أما الحسَّابون فلا يُلتفت إليهم، ولا يعوَّل على حسابهم، ولا ينبغي لهم أنْ ينشروا حسابهم، وينبغي منعهم من نشر حساباتهم، لأنهم بذلك يشوشون على الناس، لا في مسألة رؤية الهلال، ولا في مسألة الكسوفات، لما في إعلانهم من التشويش على الناس ولأنَّه لا يجوز العمل بقولهم، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- إجماع أهل العلم على أنَّه لا يُعتمد قول أهل الحساب في دخول رمضان ولا في خروجه) الفتاوى 15/135-136. سادساً: أنَّ العمل بالحساب الفلكي مدعاةٌ إلى الطعن في الشهود العدول واتهامهم بالتسرع في تأدية الشهادة، وفيه اتهامٌ لهم بالغفلة والجهل والتأخر، وهذا طعنٌ ظنيٌّ منهيٌّ عنه، مما يتأكد معه التحذير والمنع من نشرحسابات الفلكيين. سابعاً: أنَّ من مفاسد العمل بالحساب الفلكي نفياً وإثباتاً الطعنُ في قضاة المسلمين ورميهم بالتساهل في قبول الشهادة على رؤية الهلال. ثامناً: أنَّ من اشترط الحساب الفلكي لصحة الرؤية فقد استدرك على الله ورسوله. قال شيخنا ابن باز - رحمه الله - (وحكمه صلى الله عليه وسلم يعم زمانه وما بعده إلى يوم القيامة، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ بعثه إلى العالمين بشريعةٍ كاملةٍ لا يعتريها نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (المائدة 3) وهو سبحانه يعلم أنَّ الفلكيين قد يخالفون ما يشهد به الثقات من رؤية الأهلة، ولم يأمر عباده في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالاعتماد على الحساب الفلكي، أو اعتباره شرطاً في صحة الرؤية، ومن اعتبر ذلك فقد استدرك على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وألزم المسلمين بشرطٍ لا أصل له في شرع الله المطهر، وهو ألا تخالف الرؤية ما يدعيه الفلكيون من عدم ولادة الهلال، أو عدم إمكانية رؤيته، وقد صرحت الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال هذا الشرط، والاعتماد على الرؤية أو إكمال العدة) فتاوى ابن باز(15-128/129). تاسعاً: أنَّ العمل بالحساب الفلكي هي طريقة اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم من أهل البدع والضلال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد بلغني أنَّ الشرائع قبلنا أيضاً إنما علَّقت الأحكام الشرعيَّة بالأهلة، وإنما بدل من بدل من أتباعهم). وقد ذكر بعض أهل الفلك أنَّ الجداول والخوارزميات المعمول بها الآن في حساب الشهور الهلاليَّة والتقويم الهجري، مأخوذةٌ من الفاطميين الغلاة المنجمين. عاشراً: أنَّ الإجماع منعقدٌ على بطلان العمل بالحساب الفلكي في الصوم والإفطار، وقد حكى الإجماع ابن المنذر، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبو الوليد الباجي، وابن رشد، والقرطبي، وابن حجر، والعيني، وابن عابدين، والشوكاني وغيرهم. كما أجمع أعضاء هيئة كبار العلماء في بلادنا على عدم إثبات الأهلة بالحساب. الحادي عشر: أنَّ من قال: إنَّ قوله عليه الصلاة والسلام: (لا نكتب ولا نحسب) يقصد قومه ومن في عصره على فرض التسليم به، فإنَّه دلالةٌ في مقابل التصريح وهو: (صوموا لرؤيته..) ولا عبرة للدلالة في مقابلة التصريح كما هو متقررٌ عند الأصوليين، وهذا التصريح (صوموا..) دليلٌ على أنَّ المقصود نفي الحساب الفلكي مطلقاً في قوله: (ولا نحسب). الثاني عشر: أنَّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- قال: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) أي: دع ما تشك فيه إلى ما لا تشك فيه، ومن قواعد الشريعة الكليَّة أنَّ (اليقين لا يزول بالشك) ولما كان الحساب الفلكي يعتريه الشك فإنَّه يُترك، والرؤية لا شك فيها، فإنَّها تُلتزم لأنَّها يقينٌ إنْ كانت من عدل.قال شيخ الإسلام: (والمعتَمِدُ على الحساب في الهلال، كما أنَّه ضالٌ في الشريعة مبتدعٌ في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإنَّ العلماء بالهيئة يعرفون أنَّ الرؤية لا تنضبط بأمرٍ حسابي). وقال الشيخ بكر أبو زيد: (الخلاصة: إنَّ طريق إثبات أول الشهر شرعاً بالإهلال أو الإكمال، وأنَّ إجماع المسلمين منعقدٌ على عدم الأخذ بالحساب في إثبات أوائل الشهور، وأنَّ الخلاف الحاصل حادثٌ، ثم هو ليس على إطلاقه، بل هو مقيَّد -عند من قال به- ثم إنَّه وقعت في حكايته أغاليط، وأنَّ كلمة المحققين والحفاظ على أنَّ الخلاف الحادث في هذا شاذٌ تنكبه الأئمة. والله أعلم) انتهى. وإني أوصي أهل الحساب الفلكيين ومن سار على طريقتهم ممن يرون الأخذ بالحساب أنْ يتقوا الله وألا يكونوا مصدراً من مصادر الخلاف في الأمَّة، ولا ممن يحدث البلبلة والتشويش على المسلمين في مواقيت عبادتهم، وألا يلمزوا العلماء الذين أنابهم وليُّ الأمر في البت في إثبات دخول الشهر وخروجه، ولا يلمزوا الشهود العدول من المسلمين الذين يتراءون للهلال، وأنْ يكفوا ألسنتهم، هداني الله وإياهم للحق والعمل به.كما إنّي أشكر المحكمة العليا في بلادنا على اتباعها الحق والصواب بعملها بالسنة المطهرة في إثبات دخول الشهر وخروجه، وهم بذلك أدوا الأمانة التي كلفهم بها وليُّ أمرنا الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، كما أني أشكر المترائين للهلال على جهودهم، ولهم منَّا جميعاً الدعاء بالسداد والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه، والله أسأل أنْ يحفظ وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين وانْ يرزقه البطانة الصالحة الناصحة، وأنْ يعلي به الإسلام وأهله، وأن يبارك في علماء الملة والدين ويقطع دابر الفتن عن المسلمين آمين. - خطيب جامع بلدة الداخلة (سدير) [email protected]