في رياض الشعر الشعبي الزاخرة بتنوّع محتواها الأخّاذ الآسر تتجلّى العذوبة بصورها الماثلة في النصوص الجزلة لشعراء لا يغيبون عن سمع وبصر كل صاحب ذائقة رفيعة، تبعًا لنوع الشعر الذي يتطرّق له الشاعر من أغراض الشعر المختلفة المتعارف عليها عند الناقد المتخصص، والمتذوق الانطباعي. وإذا ما تطرّقنا تحديداً لشأن (الذكرى) التي ارتبطت بعاطفة الشاعر الفصيح والشعبي أيّما ارتباط على مرّ عصور الشعر بشقّيه؛ الفصيح والشعبي، فإننا لا نأتي بجديد إذا ما تطرّقنا بسرديّة تقليديّة لذكر الأطلال وتوثيقها في الشعر، أو إذا ما عرّجنا على وتيرة دراسات النقّاد وإعمالهم لأدواتهم الفنّية في النقد عند محطات ذكريات الشعراء واختزال الشعراء لمؤثراتها مروراً بزوايا النقّاد المتعارف عليها أدبياً في تناولهم للنصوص بنمطية لا تؤثر بأي حال على المدى المتفاوت لمستوى الشعراء والنقّاد كلٍ على حدة. لهذا سنستشهد بشكل مباشر بأبيات من قصائد لطالما وقفت عندها ذائقة الكثيرين من - رفيعي الذوق - في دراساتهم واستشهاداتهم لتفرّد مستوى هذه النماذج سواء من (منظور نقدي) أو انطباعي خاص ينحاز جداً للشعر الرائع الذي لا يشبه غيره البتّة في علو مقام جماله المؤثر في الذائقة، مفعّلاً نصّ المثل المألوف: (ليس كل ما يلمع ذهبًا All that glitters in not gold) يقول الأمير الشاعر خالد الفيصل: قريت خطّك بالوفا عشر مرات في كل مرّة تنثر العين ماها (ذكّرتني) هاك الليال الجميلات لو كان قلبي ذاكرٍ ما نساها من عقبكم ما عاد للعيش لذّات ما لتذّ في دنيا مخالف هواها وها هو الأمير الشاعر محمد السديري - رحمه الله - يجسّد تأثير الذكرى بشفافية دقيقة ناصعة بجلاء شمس الحب العاطفي الصادق، الذي يهب المحبوب الغالي الباعث لتداعيات شجن الذكرى وصف (عديل القلب) بأكمله وليس فقط من يستحوذ على - جزء من هذا القلب -: يا مورّد الخدّين ما طيق فرقاك هَاجوس قلبي دائماً ينتحي لك دايم وهمّي من تزعّلك ورضَاك ويزود غلّي وان تزايد غليلك يا ما (تذكّرتك) ويا ما تمنّاك ويا ما بصدري لك يخفّق (عديلك) والذكرى بكل تفاصيلها، وصورها، وحالاتها، ومواقفها، الموزّعة على (لوحة خيال الشاعر المتمكّن) في القصيدة تبقى ملازمة له لدرجة الإشارة الموحية لعمق مدى الشجن الذي تصبح السنين المتلاحقة معه جزءًا من عمر الذكرى المتجدد المؤثر بصدقيته وليس العكس، وتتجلّى براعة مهندس الكلمة المعهودة الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن في قصيدته الشهيرة - صوتك يناديني (تذكّر) حين قال: (كنّا افترقنا البارحة... والبارحة صارت عمر). ولأن المحب الصادق كما يوضّح ذلك الشاعر مساعد الرشيدي هو أدرى الناس بوقع الذكرى وتأثيرها في نفسه ومدى امتزاجها بعاطفته، فإن لديه يقينًا بأبعاد هذا المدى الشاسعة وتجذّرها في تفاصيل أيام.. وليالي عمر.. هذا الحب الصادق الثابت حتى لو حاول الطرف الآخر وهو الأقرب جداً - بلسمة خضر طعون - الذكرى: سَمَّها (ذكرى) مزوح اللِّي تسمِّي إنت ابو خضر الطعون وسَمَّها إنت يا شيخ البها سيدي وعمِّي تنثر أيامي عبَث.. وتلمَّها إنت هَمِّي وَلّ ياما أحلاك هَمِّي معك يا مِلح السنين وهَمَّها وقد تكون (الذكرى) كما تصوّرها الشاعرة - أغاريد السعودية - منعطفًا حزينًا جداً في مشوار الحياة: بنيت للأحزان من عقب فرقاك قصرٍ طويلٍ خالدٍ في حشايه وأطفيت شمعات الأمل في ملاقاك والله بموت الحب يجبر عزايه مات الأمل والقلب عامر (بذكراك) ما عاد أميّز ضحكتي من بكايه وللشاعر ماجد الشاوي وقفة خاصة مع (الذكرى) التي شبهها بزاد المسافر في رحلة النسيان بمحطاتها التي قد لا تنتهي بدءاً بعلاقة الشاعر الموهوب الجزل الأساسية مع أول مشوار القصيدة إلى نقطة اللارجوع لحلم لم يعد من بقاياه إلا رائحة الدخون أو البخور - في البيت الأخير من قصيدته التي نوردها كاملة هنا: تدرين.. وش حَدْ محبوبك يجي شاعر.. ينقش على الرمل رسمٍ ما تعرفينه إنتي وجور الزمان وحظّه العاثر ولاَّ.. المشاريه ولاَّ ظامي سنينه ولاَّ رجوعه من دروب الهوى خاسر دليل يأسه.. صفير الريح بيدينه مجبور يخفي شعورٍ دافيٍ طاهر ويساير الوقت لين ظروفه تعينه رحمة عيونك.. ترى ما عاد له خاطر ما تقنع الخمس.. دام الواقع يدينه ذبلت زهور أمس من حكمك على باكر والطاري اللِّي على بالك تسوّينه خسارة اربع سنينٍ مرّهن عابر يمد كف الوفاء.. وإنتي تمانينه ويصدّق الكذبه البيضاء وهو خابر ويجرّ ثوب الحيا.. وإنتي تغابينه ليتك تحسّين غربة عاشقٍ صابر تنزف جروحه.. ويجحد لا تشوفينه زهابه (الذكريات) وطيفك العاطر وآخر رسالة كتبتيها ترجّينه وليا تبيّن خطا مفهومك القاصر تذكَّرينه شعاع أزرق.. مع الزينه