تختلف رؤى الناس حول ما يحيط بهم من شؤون، وعندما يبوحون بتلك الرؤى لغيرهم في مثنى التعبير عن وجهة نظر في حديث أو مقال مكتوب، يواجهون برؤى مختلفة أو مضادة، هذه المواجهات، أحياناً تتسم بنقد حاد للمفاهيم التي يكتنفها أي من المتحاورين، وتتطور لمعارك عدائية من الجدل والتقريع بين المتحاورين، وإن كان موضوع الحوار موضوعا فكريا ثقافيا أو فلسفيا لا ينطوي على مصالح مباشرة لأي من المتحاورين. لطالما شد انتباهي هذا العراك بين بعض المتحاورين من المثقفين والمفكرين، فقناعتي أن وجهة النظر بما تشتمل عليه من بنائية منطقية وعقدية، هي وحدة تعبيرية فكرية، تمثل للمنشئ مسؤولية عقلية عليه طرحها دون الدفع بها قسراً للقبول من الآخرين، وتمثل للمتلقى فرصة للفهم والتعلم في سبيل صياغة مفاهيم متجددة حول ما يحيط من شؤون دون الالتزام بقبولها كلياً أو جزئياً، لذا كنت أعتقد بأن أي وحدة تعبيرية فكرية عندما تنطلق من منشئها تكون ملكاً مشاعاً للبشر عموماً فقبولها ورفضها أو نقدها وتحويرها لا يلزم أحداً بعبء يلزمه بالجدال والعدائية لغيره. ولكن واقع الحال غير ذلك، فعلى توالي العصور وفي مختلف الحضارات والثقافات قامت معارك حامية من الجدال حول رؤى بدأت نقاشاً بين اثنين ثم استقطبت لكل جانب مؤيدين ومناوئين، وبمرور الزمن تراكم الخلاف حتى استحكم عداء ربما جر لصراعات وقتل وقتيل. فإذا كان المؤسس للخلافات الفكرية هو اختلاف ثقافة وتعبير المتحاورين، فما الدافع المعزز للخلاف الفكري ليكون عداءً وقتالاً؟. قسّم عالم الأعصاب الأمريكي بول مكلين مخ الإنسان لثلاثة مكونات رئيسة بناء على دراسة مقارنة سلوكية وفسيولوجية لعدد من الحيوانات والطيور والزواحف، فجعل القسم الأسفل من المخ قسمًا تأسيسيًا، وهو ما ثبت وجوده لدى كافة سلالة الفقريات، فسماه مركب الزواحف «Reptilian Complex» وجعل هذا القسم هو مصدر التصرفات القسرية المعيشية والدفاعية والتكاثرية، وسمى القسم الثاني والذي نما لدى الثديات في العصور الغابرة بمركب الثديات البدائية «Paleomammilian Complex» وجعل هذا القسم مصدر التصرفات العاطفية والطموح والأمومة وسمى القسم الأخير والذي وجد فقط لدى الحيوانات الثديية بمركب الثديات المتقدمة «Neomammlian Complex» وهو موطن المهارات اللغوية والفهم والتخطيط. هذا التقسيم لمكونات مخ الإنسان يلقى قبولاً متزايداً لدى علماء المخ والأعصاب وعلماء النفس والسلوك في محاولة فهم دوافع التصرفات والسلوك البشري، وحيث يدعم هذا الجهد العلمي الكبير نظرية عالم النفس والسلوك الأمريكي المعروف أبراهام ماسلو في نظريته التراتيبة للسلوك البشري والتي اشتهرت باسم تراتيبة ماسلو للاحتياجات «Maslow›s Hierarchy of Needs» حيث قسّم احتياجات الإنسان لخمسة أقسام تأخذ أولوية الإشباع واحدة تلو الأخرى، فجعل البداية في الاحتياجات الفسيولوجية (التنفس والغذاء والماء والجنس والتوازن والإفراز)، ثم احتياجات السلامة (سلامة البدن، والمعيشة، والعائلة والأخلاق والملكية) ثم احتياجات الانتماء والحب (الصداقة والجماعة العائلية والوداد الجنسي) ثم احتياجات بناء الذات (الثقة بالنفس والإنجاز واحترام الآخرين والحاجة لاحترام الآخرين) وأخيراً حاجات تمكين التطلعات (الإبداع وحل العضلات وتكوين القيم وقبول العدالة والتحرر من التعصب). بناء على فهم كيفية عمل مخ الإنسان اعتمادا على نظريتي مكلين وماسلو، يمكن القول إن التصرفات التعاملية البينية والسلوكيات البشرية تنشأ بوحي وسيطرة من حالة ذهنية تكونت بفعل مثيرات فسيولوجية ونفسية لا تخضع بالضرورة لمعايير منطقية وعقلية، وهذا ما يفسر مجافاة كثير من الناس للحق والعدالة وتبرير أعمالهم العدائية تجاه الآخرين بصورة تدعو للعجب، فمهما تفوق الإنسان في اكتساب العلوم والمعارف وتعرف على كثير من الحقائق العلمية فإنه عندما يواجه موقفاً فكرياً لم يؤهل نفسه على التعامل معه بصورة ممنهجة، نجده يستسلم لدفق من المثيرات القسرية والتي تقوده للتصرف بحمائية ذاتية، فالغضب والانفعال العدائي هي تصرفات تصدر من مثير لمركب مخ الزواحف حسب نظرية مكلين وهي تصدر تلبية لحاجة الحماية حسب تراتبية ماسلو، وفي كلتا الحالتين هي تصرفات تلقائية بدائية غير عقلية، مهما بلغ ثراء مضمون الفكرة المثيرة للخلاف ثقافياً وعلمياً. الحكماء فقط هم من طور مهارة التحكم بمثيرات التصرفات القسرية وذلك من خلال التأمل المتواصل ومناقشة الذات والتعود على الاستماع والإنصات للآخر دون التسرع في بناء معارضة فكرية لازمة، والحكماء ليسوا بالضرورة من حائزي الدرجات العلمية العليا، ولا ممن بلغ كهالة في العمر، فهم فئة من الناس، أدركوا في عمر متقدم أهمية التبادل الفكري، وتدربوا على استيعاب المخالف من الأفكار والآراء لهم، وتخلصوا من عبء المسؤولية عما يطرحون من أفكار ورؤى، فإن قبلها الآخر بمحض إرادته، فلذلك طرحت، وإن رفضها فهي رمية انطلقت وباتت في الفضاء الفسيح. لذا أقول لكل من يجادل ويتشنج في جداله ويشقي نفسه وغيره، لديك في مخك متسع لتكوين مهارات عقلية راقية تجعلك في مرتبة أرقى من أن تقارن تصرفاتك بتصرفات الحرباء والسحلية والورل.