من ضمن الردود التي علقت على مقالي السابق، كتب أحد القراء الموقرين يتساءل عن، كيف نساهم في تكوين المنظور العالمي للأخلاق؟ وماذا لو أصررنا على خصوصيتنا؟ ثم أجُبرنا على التخلي عن ثوابتنا، فعن ماذا سنتخلى؟ وفي ختام تعليقه تساءل عن ماذا أقصد بالحرية! وقد وعدته أن يكون مقالي اللاحق إجابة لتساؤلاته حسب ما أرى. وحتى يكون منطلق الحوار في هذا الموضوع من أرضية مشتركة، لابد من تعريف للأخلاق، والذي يشار له في مختلف الثقافات بالتعبير الإنجليزي (Ethics)، والسبب في إيضاح المصطلح باللغة الإنجليزية ليس (للاستعراض كما يظن البعض)، ولكن لأن الحوار حول الأخلاق العامة والمشتركة بين الشعوب والتي ستحدد الأطر القانونية للنظام العالمي الجديد تقوم على أساس فهم مؤسس على التطور التاريخي والفكري الفلسفي لعلم الأخلاق عند مختلف الحضارات، (وشرح هذا يطول ويتشعب وهو خارج الإطار)، ولكن لابد من إيضاح أهم الخصائص لما يمكن أن يقال عنه أخلاق، فالأخلاق هي في المتعدي من الأفعال والأقوال، بمعنى أن تؤثر في شخص آخر أو أكثر من حيث القبول والتعامل والحال، والأخلاق معان عقلية المنشأ، فليس من الأخلاق أن تكون كريماً في البذل ومتغطرساً في المعاملة، لأن ذلك ينطوي على مفارقة منطقية، وهو ما يوحي بأن الكرم تصنع بهدف نيل الثناء والتغطرس هو ادعاء بفضل على الآخرين لا يوافقون عليه، ولكن من الأخلاق أن يتخلى الإنسان عن مكتسب لآخر لقناعة بأحقية الآخر بذلك المكتسب، فهنا تخلى العقل عن رغبة الحيازة وفضل الشعور بالإنصاف والعدل، لأن من شروط الأخلاق أن لا تنطوي على مفارقة منطقية، ويخلط الناس حين ينعتون الالتزام بمعاني وسلوكيات محددة لوجود شعور قسري غالب بأنها من الأخلاق، فتلك منشؤها تصور غير عقلي بل هو التزام مقهور بنتيجة مؤلمة، فمثلاً الرجل الذي يدعي الخوف من الله فلا يسرق هو مقهور بنتيجة العقاب الإلهي، ولو استخف بذلك العقاب لشرع لنفسه السرقة، ومثال ذلك الفارس الذي يقتل الراعي ليأخذ غنمه ثم يقدمها وليمة لضيوفه بداعي الكرم، وكذلك من يدعي بحريته في سلوك محدد ويمنع بسلطته آخر من ممارسة السلوك نفسه، فهو مقهور بغريزة الأنانية، ومهما كان السلوك مفيداً فهو غير أخلاقي، لذا نجد كثيراً مما يدعيه الناس أخلاقاً هو في الواقع قيود شعورية يحكمها حسابات المصالح والعادات البالية غير المنطقية.. لذا جوابي لتساؤل القارئ الكريم حول مساهمتنا كمجتمع في تكوين منظومة الأخلاق العالمية يبدأ بتكوين القاعدة الفكرية والعقلية لبناء أخلاقنا التي سنطالب العالم مشاركتنا ممارستها. وهذا يستلزم تغييراً منهجياً في تفكيرنا حول عدد من المعاني مثل الحق والباطل، والجور والإنصاف والظلم والعدل، فهذه المعاني محددة في المفاهيم العقلية المنطقية، ولكن عندما يأتي التعامل معها في واقع المعاملات الإنسانية تبرز المشاعر الأنانية والتي عادة ما تنشأ من سيطرة مركب مخ الزواحف (كما أسلفت في مقال سابق) فيكون الحق حقاً إذا كان يخدم حجتي، ويكون العدل عدلاً إذا كان بجانبي. والملاحظ لكثير من الممارسات التعاملية الرسمية والشعبية في مجتمعنا، أنها تقع ضمن التصنيف الذي لا ينطبق عليه وصف الأخلاق كما أسلفت، بل إن ذلك ملاحظ الشيوع بين أوساط المثقفين والمتعلمين أكثر ممن هم دونهم بالعلم والمعرفة، فالإقصاء المتبادل بين مفكري التيارات الفكرية المعاصرة خير شاهد على ذلك. وحول خصوصيتنا التي ما نفتأ نذكر بها، أقول، لكل مجتمع سمة تميزه عن غيره، وقد تكون السمة شديدة التمييز، أو قد تكون سمات متعددة يختص بها مجتمع محدد، وهو ما يطلق عليه بالخصوصية، والخصوصية هي سمة لازمة تصف المجتمع كأن يكون محافظاً أو متديناً أو متماسكاً.. وغيرها، ولكن عندما نتحدث عن تصرفات متعدية مثل متفهم أو متسامح أو متعاون فنحن نتناول معاني تعاملية تمس حال ومصالح الآخرين المتعاملين مع المجتمع من المجتمعات الأخرى ضمن جغرافية الوطن أو أبناء الوطن في المجتمعات الأخرى، وهنا تكون الخصوصية إما توافقيه تواصلية أو تصادمية تقاطعية تجاه الآخر، ونحن نعلم أن كثيراً من الإدعاء بهذه الخصوصية يظهر لدينا عندما يتعلق الآمر بمعاملة مجتمعات أخرى والمطالبة بالتوافق والتواصل معها، لذا لابد من القول أن خصوصيتنا تميل إلى الخصوصية التصادمية التقاطعية في معظم تجلياتها، وبالتالي علينا إن أردنا أن نتعامل مع العالم بكافة مكوناته الاجتماعية ونكون جزءاً منه يؤثر في مصالحه ويتأثر، فإن علينا النظر في تكوين خصوصية تواصلية. وبما أننا نعيش في عالم متواصل مترابط المصالح والمساهمات، فربما أن خصوصيتنا التقاطعية لم تعد تخدمنا كأمة فاعلة في المجتمع العالمي، ولا يملك المجتمع العالمي الاستغناء عنا بما نحوز من موارد وقدرات بشرية وثقافية، وهنا نكون عرضة لعمل ظاهرة حتمية الشيوع الفكري «حيث إنه عندما تتقابل فكرتان متضادتان في جدال منهجي مستدام، فإن الفكرتين إن لم تندمجا في فكرة متجانسة البناء الفكري، تّكون من جدالهما فكرة ثالثة غالبة ليست من طبيعتهما». وبناء على هذا، أقول إننا إن لم نبادر في مراجعة مرتكزات خصوصيتنا، وما إذا كانت قابلة لتكوين خصوصية توافقية تواصلية، فإن المجتمع سيتغير وينقلب على بعض الثوابت المعروفة من تلقاء نفسه في محاولة للتواصل مع المجتمع الدولي، وليس بفعل مغيّرات خارجية، ولن استقري ما هي الثوابت التي ستتغير ومتى سيحدث هذا التغيير، ولكن التغيير سيحدث لا محالة، فهذه طبيعة الشعوب، والأمثلة أمامنا كثيرة عبر التاريخ. في ختام قولي، أعتقد أن تساؤل القارئ الكريم حول ما هي الحرية؟ ليس تساؤل الجاهل بها، بل هو تساؤل المتوجس مما أقصد بالحرية، لذا سأعبر عما أعتقده صحيحاً تجاه الحرية، فالحرية في معناه المطلق لازمة لكل ذي قدرة على تغيير حاله، أي أن لا حرية للصخرة في أعلى الجبل أن تتدحرج حيث لا تملك الإرادة ولا القدرة في تغيير حالها، ولكن للصقر حرية الطيران في الاتجاه الذي يختار، وكذلك كل كائن لديه القدرة على تغيير حاله، والحرية عندما لا يقهرها مانع لا تستلزم النضال من أجلها، لذا ومنذ أن اختار الإنسان الكينونة الاجتماعية تخلى عن المجال الواسع لممارسة الحرية مقابل اقتراب الآخرين حوله، وتداخل مجالات حرياتهم مع مجال حريته، لذا فالحرية في نظري هي الحق في ممارسة التفاوض الاجتماعي المستدام لإمتاع الإنسان بفرديته ضمن الجماعة.