ثقافتنا العربية لا يخلو جانبها التخاطبي الفكري أوالاعتيادي على مستوى النُخب من المبالغة في المدح والإطراء،كما لا تخلو من حدة القول. والمدح والإطراء ليس موضوع اليوم، وأما حدة الرد على المخالف فلا أعظم من رد الصديق- رضي الله عنه- (وحق له) على عروة بن مسعود في الحديبية وذلك لعظم ما قاله عروة (آنذاك قبل إسلامه رضي الله عنه) في ظنه الفاسد بأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتخليهم عنه عليه السلام. وقد توارثت العرب حدة اللفظ في خطابهم مع الآخرين ما يتراوح بين اتهام المخالف بأنه خنيث، ووصف الخطأ بالكذب، والاستهزاء بالاسم والأصل عند الرد، إلى أخف الأمورعند العرب (وما هو والله بخفيف) وهي اتهام عقل المخالف ووصفه بالجهل. قد يلجأ المناظر أحيانا إلى حدة في العبارة أو سخرية في الخطاب من أجل إثارة الموضوع وحفظه في الأذهان. وهذا أسلوب مستخدم الآن في الدعايات العالمية، فقد ترى دعاية تلفزيونية لمنتج جديد كليا وفيها منظر مقزز لا علاقة له بموضوع الدعاية، وذلك من أجل إلصاق إدراك وجودية هذا المنتج في العقل الباطني للزبون المستهدف، ومن ثم إرداف هذه الدعاية بعد ذلك بدعايات أخرى. وقد تخرج من المناظر في مضايق المناظرات ومخانق الفكر ألفاظ نابية وعبارات حادة، لا تنفع قائلها ولا تمنحه حجة، فقوة الخلاف تظهر في تحدي العقول لا في حدة القول. وقد يكون المتحدث أو المناظرحاد الطبع خلقة فلا يخلوحديثه من حدة في القول ولو حاول التطبع بغير طبعه. «ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ وإن خالها تُخفى على الناس تُعلمِ» . وقد كان الصديق رضي الله عنه خليفة رسول الله حادا في طبعه وكذلك كان ابن حزم. وقد يكون المناظر مخلصا أو ذكيا ويواجه مدلسا أو غبيا فيخرجه ذلك عن طوره وتترجم معاناته على صورة حدة في القول والطرح. «ذو العقل يشقى في النعيم بعقلِهِ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم ومن البليّة عذل من لا يرعوي عن جهلِهِ وخطاب من لا يفهم» . كما أن لصاحب الحق مقالا، ولذا فليس كل مهادن بالقول حليم فقد يكون ذلك من ضعف حجته « والذل يظهر في الذليل مودةً وأود منه لمن يود الأرقم» (الأرقم هو الثعبان). فخلاصة القول: إن حدة القول لها أصل في ثقافتنا العربية، وحدة القول فطرة تستفزها مناسبتها، وحدة القول أسلوب دعائي أحيانا، وحدة القول قد يكونا دليلا على إفلاس الحجة فتعوض بحدة القول والفحش في الخصومة، تماما كما يكون اللين في الخطاب واللحن بالقول من ضعف الحجة. ومرادي من هذه المقدمة هو تبيين أن استدعاء السلطة والقضاء في كل مناسبة يشذ أحدهم في قول هنا وهناك هو من تقييد للحريات وتعطيل للحوار. وذلك أن المتحدث ينشغل بتنميق الألفاظ وتجميل القول حتى ينشغل عن جوهر الطرح. وقد يُترك الطرح عالقا خوفا من الخطأ في القول، فيستدعي المخالف السلطة والقضاء عليه. كما أن استدعاء السلطة والقضاء هو ضعف في الحجة والدليل والمنطق. فما عدا التعدي الظاهر الواضح على الدين أو العرض، فإن مناخ الحريات الفكرية الساعي للإصلاح والتجديد لا ينضبط ولا يعمل في مجتمع يستدعي بعض أفراده السلطة والقضاء على بعضه الآخر في كل مناسبة. يجب عدم إدخال السلطة والقضاء في الحوارات الفكرية أو أحاديث رموزها، وترك المجتمع يحكم على صحة القول او بطلانه، فالحق أبلج ولو تأخر ظهوره. ومما يخطر في بالي الآن كشاهد على حكم المجتمع الواعي، هو موقف المجتمع الأمريكي من هجوم هيلاري كلينتون على أوباما خلال الحملة الانتخابية ووصفه بأوصاف منحطة. فما كان تحليل الصحافة لرد المجتمع الأمريكي على كلام كلينتون إلا أن تنبأت أن اتهامات كلينتون لأوباما ووصفها السيئ له سترجع عليها. وفعلا خسرت كلينتون الانتخابات أمام الأسود ابن الزنجي المسلم. فالمجتمع الأمريكي المتحرر من التبعية الفكرية يحكم على الأقوال بغض النظر عن قائلها. وأما عندنا، فإن كثيرا من أفراد مجتمعنا يحكم على الأقوال تبعا في حكمه على قائلها. والمسكوت عنه هنا، أن استدعاء السلطة والقضاء عند أي زلة لفظية للمخالف هو من باب إقحام السلطة والقضاء في النزاعات الفكرية.